رأي

مِنْ وَاقِعِ الْعِرَاقِ الْجَّرِيحِ

كنتُ أتأمَّلُ ما يجري في عراقنا الجريح في هذه الأيام التي اختلط فيها الحابل بالنابل، والصالح بالعاطل، والحق بالباطل، وما أخافه أن ينتصر الباطل من جديد ونرجع إلى تلك العهود …

كنتُ أتأمَّلُ ما يجري في عراقنا الجريح في هذه الأيام التي اختلط فيها الحابل بالنابل، والصالح بالعاطل، والحق بالباطل، وما أخافه أن ينتصر الباطل من جديد ونرجع إلى تلك العهود السوداء التي قرأنا عن قديمها، ورأينا أو سمعنا عن حديثها في الماضي القريب، حيث لا يعلم إلا الله عدد القتلى، وأماكن قبورهم للأسف الشديد.
وبما أنني شغوف بالتاريخ، مولع بالبحث فيه، رأيتُ أن اليوم بمصائبه ما هو إلا ابن الأمس بفساده وباطله، فتذكرتُ أن العربَ في القديم قالوا: الناس ناس والزمان زمان، والدَّهر مجنون بأهله، “وهو الدُّولاب التي يُستَقى بها الماء؛ وما الزَّمان بأهله إلا كالدولاب تارةً يرفع وتارةً يَضَع”.
وقد قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “الناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم”.

  • متى يكون الزمان صالحاً؟

ولكن اللطيف ما وقعتُ عليه من ظرافة في رسالة كتبها “بديع الزمان الهمداني» إلى شيخه، ابن فارس، صاحب معجم المقاييس؛ المنسوب له عتاباً على الهمداني بقوله: “فسد الزمان، وتغيّر علينا البديع”، وجاء في الرسالة ما نصَّه:
“الشيخ الإمام يقول: فسد الزمان، أفلا يقول، متى كان صالحاً؟.
أ في الدولة العباسية وقد رأينا آخرها وسمعنا بأولها؟
أم في المدة المروانية وفي أخبارها: “لا تكسع الشول بأغبارها”. أي “أن العرب كانت إذا أخصبت عاماً، لم تستقصِ الحَلب، وتركت في الضروع بقية، وكسعت الضروع بالماء البارد ليترادَّ اللبن، فيكون أقوى لظهورها، فإن كان في العام المقبل جدب، كان فيها فضل وقوة حتى لا ينقطع اللبن، فقال هذا الشاعر: “لا تكسع الشول” وهي النوق، بأغبارها وهي بقايا ألبانها، إنك لا تدري من الناتج أي لعله أن يُغارَ عليك فتؤخذ أو تموت، فيأخذها الوارث، فالصواب أن تتعجل منفعتها”؟
أم البيعة الهاشمية وعليّ، عليه السلام، يشكو ويقول: “ليت العَشْرة منكم برأس من بني فراس”؟
أم الأيام الأموية والنفير إلى الحجاز والصدور إلى الأعجاز؟
أم الإمارة العدوية (العمرية) وصاحبها يقول: “وهل بعد البزول إلا النزول”؟
أم الخلافة التيمية (البكرية) وصاحبها يقول: “طوبى لمَنْ مات في نأنأة الإسلام”.
أم على عهد الرسالة ويوم الفتح (إذْ) قيل: “اسكتي يا فلانة فقد نأت الأمانة”؟
أم في الجاهلية، ولبيد يقول:
ذهب الذين يُعاش في أكنافهم *** وبقيتُ في خَلَفٍ كجلد الأجرب؟
أم قبل ذلك وأخو عاد يقول:
بلاد بها كنا وكنا نحبها *** إذ الناس ناس والزمان زمانُ؟
أم قبلها، وقد روي عن آدم (قوله):
تغيَّرت البلادُ ومَنْ عليها *** فوجه الأرض مغبرٌ قبيحُ؟
أم قبل ذلك، وقد قالت الملائكة لربها: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}؟
وما فسد الناس ولكن اطّرد القياس، ولا أظلمَّت الأيام، ولكن امتدّ الظلام”.
فهذا كلام دقيق جداً ووصف حاذق بالأخبار وتقلُّب الأحوال منذ الصدر الأول للإسلام، ومنذ أن كان رسول الإنسانية بين ظهرانيهم يرونه في كل حالاته، ويسألونه عن كل صغيرة وكبيرة، ويُخبرهم بكل شاردة و واردة، ويُبشرهم بالخير والخصب إذا أخذوا بكتاب الله وتمسكوا بعترته الطاهرة من أئمتهم، إلا أنهم كانوا يصرون وبشكل عجيب وغريب على معصية الله و رسوله في الثقلين (الكتاب والعترة)، واستخدموا الكتاب في إقصاء العترة وذلك في رزية يوم الخميس كما سماها حبر الأمة الإسلامية؛ عبد الله بن العباس حيث قال رسول الله، صلى الله عليه وآله: “أعطوني كتف ودواة أكتب لكم كتاباً لن تضلوا من بعده أبدا“.
فقال ذاك الرجل: إن نبيَّكم (النبي) ليهجر! حسبنا كتاب الله.
و انقسم مَنْ كان عنده في البيت وكثُر اللغط عنده -وهو حرام- فطردهم – روحي فداه- بقوله: “قوموا عني“!
من ذلك اليوم والقوم مازالوا يعتقدون أنهم اختاروا و وفقوا كما صرح وقال لعبد الله بن العباس بلسانه، لأن قريش لم تحب أن تجتمع النبوة والإمامة في بني هاشم، علماً أن الله أحب ذلك و أمر به في كتابه ومن فوق سماواته، ولكن هم يظنون أنهم فعلوا الصالح، وما يحقق المصالح للأمة، ولكن الأيام كشفت أن ادعاءهم محض هراء، وكلامهم كذب ودجل وافتراء، لأنهم لم يحققوا إلا مصالحهم الشخصية، ثم القرشية فقط حين أوصلوها إلى أخبث وأكثر بيت في العرب شراً، وأبغض الأحياء إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله، من بني أمية الطلقاء وأبنائها اللعناء، فعاثوا في الأرض فساداً وإفساداً و البعض يدَّعي أنهم كانوا يحسنون صنعاً!

  • من يدفع العراق الى حافة الهاوية؟

والحال هي الحال في هذا الزمان الأغبر، حيث ابتلينا بقطعان الصهيووهابية المجرمة الذين اختاروا أمريكا وإسرائيل على العرب والمسلمين، و راحوا يعملون جهدهم وجهادهم في تدمير البلاد وتشريد العباد، في المنطقة لأنهم يخافون على أبناء عمومتهم الصهاينة الذين جمعوهم في أرض فلسطين، وكل خطر عليهم يجب إبعاده عنهم، وكل فائدة يجب أن تمر من عندهم فهم أحق بالفائدة لأنهم “شعب الله المختار”.
فرجال حزب الله أشداء وأقوياء.
وجيش سوريا منظماً وقوياً، وخيرات سورية المكتشفة عظيمة وغنيمة.
والعراق يحاول أن ينهض من تحت الهيمنة الأمريكية، حين توجه شرقاً إلى روسيا والهند والصين.
والعراق يُشكل وسط الهلال الشيعي كما يُسمونه ولذا يحاولون من جديد إجهاض نهضته، واستثمار ثورة شبابه الغيارى الأبطال الذين هم أوصلوهم إلى حافة الهاوية والانفجار، لأنهم كانوا يمنعون الشعب أن يختار الصالح، فيفرضون الطالح الفاسد الذي هم يعينونه، ويمنعوهم من عمل أي شيء لصالح العراق، فنشروا الفساد أكثر مما هو لديهم، وأوصلوا الجميع إلى الهاوية، فدفعوا بكل صبيانهم الذين درَّبوهم جيداً و وزعوهم بإتقان وأعطوا كل واحد منهم دوره ومكانه وخطته لينفذها عند بلوغ الأمر.
وحيث ممنوع على العراق أن يكون دولة مستقلة ذات سيادة وكرامة وجيش وحكومة قوية تستثمر خيرات البلاد وطاقات العباد لصالحهم جميعاً، لأن العراق يغفو على بحر من الذهب الاسود، وممنوع عليه إلا أن يجمع هذه الثروة ويرسله خاماً وبكل أمانة لهم وإلا فهو سارق ولص وغادر ويجب تبديله.
ولما خرجت هذه المجاميع المقهورة من الشباب العاطل عن العمل، والمحتاج لرغيف العيش، ويرى بأم عينيه، ويسمع بأذنه من القريب والغريب عن سرقات بالمليارات، وميزانية بالترليونات، وهو ليس لديه لتر ماء نظيف ليشربه، ولا بيت ليأويه، ولا فرصة عمل لمن تعلم وتخرج من الجامعة.
فهذه الثورة هي في الحقيقة والواقع ثورة الغاضبين على الفساد والظلم، فهم يرون العراق بكل ثرواته يسرق وينهب أمام أعينهم، وقد صبوا عقدين من الزمن حتى تمتلئ البنوك الغربية، والكروش الوحشية من خيراتهم، وقد أتخموا جميعاً، لكن آن الأوان لكي يلتفتوا إلى هذا الشعب الأبي والمضطهد، و يدعوهم يعيشون بعزة وكرامة و بعرق جبينهم، وكد يمينهم كما أرادوا، لا كما تريد أمريكا والصهيونية والوهابية المجرمة.
ولكن المتصيدين بالماء العكر، والمنتظرين الوثبة، والمتربصين بالعراق وأهله شراً ركبوا تلك الأمواج الهادرة من الشباب الثائرة وراحوا تحت تأثير الضغط الجماعي والاندفاع الثوري والغضب الجماهيري، يحرقون، ويقتلون، ويدمرون، ويفسدون في العراق بضرب كل المؤسسات العامة العائدة إلى الشعب وملكيتها للجماهير لا للأشخاص.

  • القيادة المرجعية وسبيل السلام

والمرجعية الرشيدة والقيادة المباركة التابعة لها تابعت الأحداث منذ البداية بدقة متناهية ورفدتها بكل التعليمات والتوجيهات التي تميز فيها بين الصالح والطالح، بين الحق والباطل، وأيدت مطالبها المُحقة، وحذرتها من أعدائها المندسين فيها، و رسمت لهم خارطة طريق لاحب، في بياناتها الأسبوعية لكي لا تخلو الساحة من القائد، وتتحول الثورة إلى الفوضى كما تريد الأفكار الأمريكية وفق نظريتها “الفوضى الخلاقة” التي ظهرت مع تنفيذ مخطط الاطاحة بنظام صدام.
فيا أحبتي وإخوتي وأهل في العراق الحبيب، والثائر البطل الجريح، لا يأخذكم أبناء الطلقاء ويسرقون منكم ثورتكم المباركة، اثبتوا على ولائكم وسيروا خلف مرجعيتكم الرشيدة وقيادتكم الحكيمة المتمثل بالمرجع الكبير السيد علي السستاني -دام عزه- وتذكروا قول جده أمير المؤمنين، عليه السلام، لأجدادكم: “هيهات هيهات، إنّه لا يدفع الضيم الذلّ، ولا يدرك الحقّ إلاّ الجدّ، فخبروني يا أهل العراق مع أيّ إمام بعدي تقاتلون؟ أم أيّة دار تمنعون”؟
وإياكم أن تكونوا كالأنصار الذي قال لهم النبي الاكرم، صلى الله عليه وآله: “إنكم لتقلّون عند الفزع وتكثرون عند الطمع”.
بل كونوا أنصار حق، و رجال صدق خلف قيادتكم التي وهبها الله لكم تنقذكم من كل هذه المحن التي اختبرتموها منذ عقدين من الزمن، و رأيتم كيف دحرتم كل قوى الغي والعدوان والشر والضلال، وطردتم قطعان الظلم والظلام الصهيووهابية بحشدكم المبارك، فلا تغفلوا عن تلك الأيام الخالية، وتنجروا خلف الأفكار الضالة والدعاوى البالية فتفرِّطوا ببلدكم، وأنفسكم وهيهات بعدها من قيام إلا ويكثر فيكم الظلم والظلام لا سمح الله.
*كاتب إسلامي من سوريا

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا