وأنت تقود السيارة، في يوم ممطر، وجو غائم ومترب، وعلى طريق متسخ، والهواء سريع للغاية، تريد الانتقال من مكان لآخر، تلاحظ أن الزجاجة التي أمامك وأنت تقود السيارة تتسابق اليها قطرات المطر المحملة بالأتربة، فتسرع بإعطاء إيعاز لتشغيل الماسحات الأمامية، لماذا؟ لكي لا تنعدم الرؤية أمامك، فتتسبب بحادث أو اصطدام بشيء ما.
فما دمت تريد المحافظة على سلامتك وتوازنك وأنت تقود السيارة، فلابد أن تستمر الماسحات في عملها، وإلا فإن قطرات المطر المحملة بالأتربة سوف تحجب الرؤية عنك، وتكون عازلاً بينك وبين الشارع، والنتيجة أما أن تتوقف عن الحركة، أو تجازف فتستمر، وهذا ما لا يحمد عقباه .
يشبه هذا المثال الى حد كبير مسيرة كل إنسان في هذه الحياة، ولكن كيف؟ وما هو وجه التشابه؟
يخرج ابن آدم من بطن أمه وفطرته بيضاء ناصعة، فتتسارع الأيام في عمره، وما أن يلبث حتى يطوي مرحلة كاملة من عمره، ويدخل في أخرى، فتنطوي مرحلة الطفولة من حياته ،وتبدأ مرحلة الشباب أو ما تسمى بربيع العمر، ومطلع هذه المرحلة من سن التكليف الذي شرّعته رسالات السماء، وهكذا الأيام تتسابق في عمره حتى يبلغ الشيخوخة، ومن ثم نفاذ أيامه وانتقاله الى دار الآخرة.
ولكن..!
هل تبقى تلك الفطرة التي وهبها الله إليه بيضاء وناصعة؟
كلا..
فكما تلك السيارة التي تسير في جوٍّ ممطر وغائم، وتتعرض الى ما تتعرض اليه، كذلك الإنسان في هذه الدنيا، يتعرّض في حياته الى عشرات الظروف المختلفة، فتؤثر على فطرته و روحه، فتتسبب في اتساخها وتلوثها، فمن عائلةٍ تركت بصمات كبيرة على تلك الروح، أو مدرسة درس فيها، أو صديق قضى معه فترة من الزمن، أو مجتمع اختلط معه فشارك في بناء شخصيته، أو صفحات التواصل والانترنت الذي هو الآخر ترك آثاراً على روحه، وفوق كل ذلك شياطين الجن الذين لا يتركوه ويهدفون الى افساد فطرته، حتى عند النوم فإنهم لا يتركوه يريدون التمكن منه.
وهذه الآيات القرآنية تدل على ذلك، على لسان ابليس: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} وفي آية أخرى {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} ،وأشد من ذلك؛ النفس الأمارة بالسوء التي تجر الإنسان دوماً نحو الذنوب ومعصية الله والتمرد على الحق، كما وصفها امامنا، زين العابدين (ع) في مناجاة الشاكين: الهي اليك أشكو نفساً بالسوء أمّارة، وإلى الخطيئة مبادرة، وبمعاصيك مولعة، ولسخطك متعرضة، تسلك بي مسالك المهالك.. كل ذلك يؤدي الى نتيجة واحدة، وهي افساد تلك الفطرة التي وهبها الله الينا، وتلويثها بمختلف الطرق والأساليب.
والمسؤولية الكبيرة التي تقع على عاتقنا أن نحافظ على تلك الفطرة دوماً، وننظفها من تلك الشوائب، ونعالجها من تلك الأمراض، ونجنبها من تلك الضربات، وهذا العمل يشبه الى حدٍ كبير عمل الماسحات التي تمسح الزجاجة الأمامية للسيارة، وهذا ما يسمى بــ(تزكية النفس) التي قال عنها ربنا في كتابه الكريم: {قد أفلحَ مَن زكّاها}.
والعكس يكون صحيحاً، حيث ان إهمال النفس وترك الشوائب والذنوب تتراكم على تلك الفطرة حتى تفسد، والضياع في ظلمات النفس وذل المعاصي، والانجرار خلف الشهوات والغرائز، ويصف ذلك ربنا في كتابه: {وقد خَابَ مَن دسّاها} والدسَّ من الدفن والاخفاء، فيقال دسَّ الشيء في التراب أي أخفاه في التراب، ودسّ النفس يعني دسّ تلك الفطرة في أوحال الشهوات والذنوب.
فكلما تلوثت تلك الفطرة، وأحاطت بها الشوائب، فإن صاحبها لا يستطيع أن يرى الحقائق كما هي، ومن ثم لا ينسجم مع السنن، فيضيّع طريق الحق، وينزلق سريعاً في مزالق الشيطان، ويتيه في أوهام النفس وظلمات الباطل، ومن ثم يشذُّ عن الحق تماماً، وقد يكون خصماً له، وربنا يحدثنا عن هذه الحالة في كتابه الكريم حيث يقول {الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (13) كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (المطففين).
والرين هنا بمعنى الصدأ الذي يعلو على الشيء فيخفيه، فكذلك تلك الذنوب والشوائب تشكل طبقة كثيفة على القلب أي الروح فتحجب عنه الحقائق أو التسليم للحق والانسجام مع الحق. وفي آية أخرى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} ومعنى أن تبسل نفسٌ بما كسبت، أي من بعد ما غرقت في الباطل والذنوب والمعاصي ومخالفة السنن الالهية، فيرى صاحبها الحق باطلاً والباطل حقاً.
فكل واحد منا يتعرّض الى مختلف الظروف التي تتسبب في تلوث فطرته وروحه، وتشويش رؤيته الى الحقائق والسنن الالهية، ونسبة التراكمات على تلك الروح تتفاوت من شخص لآخر، كل حسب أعماله وحركاته وسكناته في الحياة، أما أن تكون أعمال تجلي وتزكي تلك الروح أو تدسها وتلوثها.
ولكن أين نرى صور ونتائج هذه التراكمات وآثارها، كذلك صور ونتائج التزكية وآثارها؟
نستطيع أن نرى نتائج كلا الجانبين وبوضوح في حياتنا اليومية، وفي قضايا وأفعال متعددة، تعكس لنا نسبة التراكمات على النفس، عند الصلاة والدعاء وزيارة الأولياء، وفي المسجد وعند قراءة القران وفي مجالس الذكر وغيرها.
ألا ترى أن البعض ما إن يدخل في صلاته، حتى يتغيّر كلياً، وتبدو ملامح الخشوع والخضوع واضحة على جوارحه، وما إن يقرأ القرآن، إلا و رأيته متفكراً ومتدبراً بآياته وهو جالس أمامه كما التلميذ المهذّب، أو يدخل لزيارة قبر من قبور أولياء الله فينشرح قلبه وتطمئّن نفسه، أو حينما يدعو الله ترى دموعه تنهمر على خديه.
والبعض الآخر بالعكس منه تماماً، فحينما يصلي تراه يسرع في صلاته، وكأن جبلاً على ظهره يريد أن يتخلّص منه، وما إن يبدأ في الركعة الأولى حتى يفكر في نهاية الصلاة، فهمه آخر ركعة فيها، وذهنه شارد يتسكّع في أمور الدنيا، أو حينما يقرأ القرآن تراه لا يتجاوز ترقوته (حنجرته) ولا يفقه منه شيئاً، أو حينما يدخل لزيارة قبر من قبور الأولياء تراه يتصرّف كأنما في بيت من بيوت أقاربه، فلا يضع له وزناً أو هيبةً وما إن يدخل يهمُّ بالخروج، أو حينما يدخل في المسجد أو يحضر مجلساً من مجالس العزاء تراه منحسر النفس ويكون في ضيق وحسرة لماذا؟
لأن روحه تلوّثت فلا يتحسس طعم الحق وحلاوته، ومثل تلك الروح كمثل إناء متسخ، فتريد أن تشرب به ماءً طاهراً نقياً، ولكن ما إن تضع ذلك الماء الرقراق فيه يتلوث، فلا تستطيع أن تتذوق طعم الماء النقي، وإذا أردت أن تستشعر لذة الماء النقي لابد أولاً أن تنظف الإناء جيداً حتى تتمكن من تذوق لذة الماء.
كذلك النفس أيضاً، حينما تعلو عليها تراكمات الذنوب، لا تستطيع أن تتفاعل مع الحق، ولا يمكنها أن تتذوق حلاوته، ويعيش صاحبها في ضنك وشدّة، وفي حديث عن الامام الباقر ،عليه السلام، يقول فيه: (إن لله عقوبات في القلوب والأبدان، ضنك في المعيشة، ووهن في العبادة، وما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلوب، أي سلب لذة المناجاة والعبادة، وسلب انشراح القلب للحق).
فمن هنا جاءت رسالات السماء تحذر الإنسان وتبين له هذه الحقيقة، وتحمّله المسؤولية، فربنا يقول في كتابه الكريم: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (النازعات)، وفي آية أخرى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (الشمس)، وفي آية أخرى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (المدّثّر).
فلكي نستقيم على الهدى، ونرى الحق حقاً فنتبعه، ونرى الباطل باطل فنجتنبه، لابد أن نسعى دوماً من أجل تزكية أنفسنا من الأدران والشوائب، ومن كل دنس وذنب، حتى تصير أرواحنا معلقة بعزِّ قدس الله، وخاضعة ومسلّمة للحق وجنوده ومحبة له.