ثقافة رسالية

حركية العقل الاجتماعي.. هموم وتطلعات

يرتكز ميزان الحركة الشعبي على ركائز معينة تمثل عصب الحياة للواقع الاجتماعي، وبدونها لا يتمكن المجتمع من بناء نفسه وتصحيح مساره، واحد أهم هذه …

يرتكز ميزان الحركة الشعبي على ركائز معينة تمثل عصب الحياة للواقع الاجتماعي، وبدونها لا يتمكن المجتمع من بناء نفسه وتصحيح مساره، واحد أهم هذه الركائز هو العقل الاجتماعي العام، المتمثل بالرؤى الموحدة لأبناء المجتمع المكونة على أساس مجموعة من العوامل الاجتماعية والدينية المشتركة، والعنصر المشترك بينها هو العنصر الاخلاقي؛ لأنه روح المعاملات الإنسانية، وأساس قيام المجتمعات وتكامل الامم.
لذلك كان نجاح حركية العقل الاجتماعي في المسيرة الاصلاحية على ارض الواقع مرهونا بمدى تمسكها بالمشتركات والروابط التي يلتقي عندها ابناء البلد الواحد، فكان هناك أكثر من عامل يدعو إلى ضرورة إيجاد هذه الوحدة؛ اجتماعياً ودينياً، فمن الجانب الاجتماعي هناك مشتركات البيئة والثقافة والعادات والتقاليد الأصيلة، ومن الجانب الديني توجد المشتركات الإسلامية ذات القيم السامية، لهذا تكونت حركية العقل الاجتماعي من هذا الخليط الممزوج بالعنصر الاخلاقي كرابط أساسي بينهما، إذ يرفض الدين كل ما هو غير اخلاقي، ولا يرضى المجتمع بعامته الابتعاد عن الاخلاق الاجتماعية.

  • الابتعاد عن هدى الوحي بداية السقوط

وقد حثّت الشريعة المقدسة على الوحدة الجماعية على أساس العقل القائم بهدى الوحي الالهي، ولذلك أشار القرآن الكريم بقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا}، (سورة آل عمران،103). إذ الاعتصام بحبله له مصاديق عديدة أبرزها؛ الالتزام الكامل بهدى الوحي الإلهي وتعاليمه الاخلاقية، ويتمثل ذلك بالالتزام الكامل بما ورد في القرآن الكريم وسنة النبي، صلى الله عليه وآله، وأهل بيته، عليهم السلام، والاقتداء بالعلماء الأبرار، إذ إن هذه المنظومة المعرفية متوافقة الافكار والقيم، وهذا ما يساهم في خلق الانسجام الفكري والتلاحم الواقعي داخل نسيج المجتمع الإسلامي، لذلك كان دأب الحكومات الظالمة من الداخل والخارج العمل على تمزيق هذا النسيج المتلاحم وتفكيك بنيته عبر إثارة بعض المسائل الحساسة كالطائفية والقومية وغيرها لإشغال حركية العقل الاجتماعي عن اهداف المجتمع السامية وقضاياه المصيرية، ولكي لا يكون المجتمع قوة جماهيرية عامة تشكل ضغطا كبيرا على انحراف عمل الحكومات وتقوّض مشاريعها الفاسدة.
ولهذا سارت حركية العقل الاجتماعي في مسارات متباينة واتجاهات مختلفة، وقد أشار القرآن الكريم إلى العديد من الاقوام التي هلكت، والحضارات التي سقطت بسبب تفرق كلمتها وتشتت أفكارها بعيداً عن العدالة الاجتماعية، ومفاهيم الوحي الالهي، ولعل تردي الواقع الاخلاقي في المجتمع المحافظ وانتشار محرمات السلوك الاجتماعي بشكل واسع كان هو العامل الأبرز من بين سائر العوامل في تفكيك البنية الاجتماعية المتماسكة وضياع القيم النبيلة، والشواهد على ذلك كثيرة، فقد أغرق اللهُ قوم نوح بسبب الكذب {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ}، (سورة الشعراء، 105)، وأهلك الله قوم لوط، و أرسل عليهم مطر السوء وحجارة من سجيل، ومن طين، وبالصيحة و أنواع العذاب بسبب تكذيبهم النبي لوطًا، قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ}، (سورة القمر، 33)، وهكذا فعل الله بقوم هود إذ أرسل عليهم الريح العقيم الصرصر، والصيحة والقارعة وغيرها، وكان ذلك ايضاً بسبب تكذيبهم لنبي الله هود وعدم التصديق بما جاء به، قال تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ}، (سورة الشعراء، 123)، وهكذا مصير قوم ثمود وشُعيب وبني اسرائيل، وغيرهم، والسبب في ذلك أنهم لم تتوحد حركتهم الاجتماعية لتتجه نحو الايمان بالمنظومة المعرفية المرسلة من الله تعالى على ايدي انبيائه، بل تفرقت كلمتهم ولم يسيروا خلف منهج واضح يحدد لهم معالم طريقهم المنشود، واصابتهم الامراض الاخلاقية بسبب مخالفتهم سنة الله –تعالى- ودعوته لهم للوحدة والايمان بمنهج الوحي، ولو سارت هذه الحركة الاجتماعية على خط الاستقامة ومكارم الاخلاق لكان لها ان تصنع المجد الحضاري بأسمى آيات الطهر والولاء، ولذلك قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}،(سورة الاعراف، 96). من هذه الآية يتبين أن ذهاب البركة الالهية وحرمان المجتمع منها بسبب رذيلة الكذب والتكذيب الذي هو أحد عوامل التسافل القيمي و أقوى مرض اخلاقي يفتت العلاقات الاجتماعية، ويمزق نسيجه ويهدم عُرى الحضارات المتماسكة.

  • الازدواجية في التفكير

وفي الواقع المعاصر يقوى تسلط الافكار الغريبة على هذه العقلية، مما أصاب الحركة الاجتماعية بالشلل، وهذا ما يعزز إيماننا بإصابة اغلب الافراد بالازدواجية الشخصية وطغيانها على سلوكيات المجتمع بنسبة كبيرة، من هنا طفت على السطح نماذج عديدة تبيّن مدى تغلل الازدواجية في نفوس الافراد، إذ صار المجتمع يُحيي ذكرى الثائرين الرافضين للظلم والاضطهاد، وهو يرزح تحت وطأة الاستبداد بمختلف اشكاله، و أخذنا نسرُد في أدبياتنا مفاهيم الصدق والمحبة والعزة والكرامة، ونحن نعيش واقعاً يفتقر إلى أبسط مستويات الولاء الصادق لقيم الاخلاق الرفيعة، فأيّ عزة هذه، وعن أيّ صدقٍ نتكلم؟!
هذا التحول الخطير في حركية العقل الاجتماعي، نتيجة ابتعاده عن الاهتمام بالروابط والمصالح المشتركة، وبعد تركه التمسك بمنهج الوحي كدستور وقانون للحياة الاجتماعية، اتجهت حركتنا العقلية باتجاهات مختلفة أدى إلى إضعاف قوانا وتمزيق نسيجنا الاجتماعي، ومن ثمّ ليكون مصيرنا التقهقر والتخلف عن ركب الحضارة الإنسانية، في الوقت الذي كان علينا أن نسير بخطى ثابتة متزنة لنرتقي سلم الحضارة بعقل راجح وحكمة بالغة، فيما إذا تعاهدنا قيم الوحي وتمسكنا بوحدتنا الاجتماعية، وطبقنا مفاهيم الصدق والاخاء والمحبة والتسامح عملاً على ارض الواقع، إذ الالتزام الجاد بنهج الحق تعالى كفيل بتحقيق الوحدة بين الشرائح الاجتماعية جميعاً، و لتتوحد الجهود العلمية والعملية لتصب في بوتقة المصالح الاجتماعية العامة، وتتفوق حينها الذات الإنسانية العامة على الذات الشخصية النفعية الضيقة بدرجة ما، فتتصدر قائمة أولويات المجتمع كل القضايا العامة والمسائل المصيرية للأمة، وهذا ما نتطلع لبلوغه بجهود الطيبين الصادقين لتتجه حركية العقل الاجتماعي للأمة على أساس معالجة القضايا الكبرى للمجتمع الاسلامي، وتحديد اهدافه الحضارية والارتقاء بالواقع المعاصر إلى مصاف الحضارات والأمم المتقدمة.

  • الحركية المؤثرة عامل ضغط لصنع القرار السياسي

هذه الحركية المؤثرة للعقل الاجتماعي تشكل قوة ضاغطة على انحراف عمل الحكومات ومنعها من استغلال المجتمع وضياع حقوقه، إذ لا شك ولا شبهة في تفوق الضغوط الاجتماعية الموحدة على هيكلية الحكومات الفاسدة بكافة مفاصلها، لأن “الجماهير أقوى من الطغاة”، كما قالها المرجع الديني الشهيد السيد محمد باقر الصدر(رحمه الله)، وتاريخنا حافل بمنجزات كبيرة ولدتها القوة الجماهيرية الموحدة وسير الحركة العقلية الاجتماعية بالطريق الصحيح، فثورة التنباك أو ثورة التبغ في إيران عام 1890م أفشلت اتفاقية الشركة البريطانية الساعية إلى احتكار زراعة وانتاج التبغ في ايرن لمدة 50 عام، إذ عارض علماء الدين هذه الاتفاقية، و أصدر المرجع الديني الأعلى في زمانه؛ السيد ميرزا محمد حسن الشيرازي (ت1895م) والذي كان يقيم في مدينة سامراء، فوقف الشعب الايراني مع هذه الفتوى وقفة رجلٍ واحد، و أفشلوا مخططات الانكليز، وتم رفض الاتفاقية، وهكذا حدث في العراق في سنة 1920م حينما وقف الشعب بأجمعهِ ضد الاحتلال البريطاني على أثر صدور الفتوى من قبل المرجع الديني الاعلى الشيخ ميرزا محمد تقي الشيرازي (ت1920م) والتي حرّم فيها انتخاب غير المسلمين للإمارة والحكم على المسلمين، وكان لهذه الفتوى الأثر الكبير في توحيد حركة المجتمع العراقي ضمن هدف سامٍ يحقق لهم العزة والكرامة، واندلعت على أثرها ثورة العشرين ضمن احداث متلاحقة أدت إلى رص الصفوف، وتوحيد الجهود والوقوف بوجه الاستعمار البريطاني الظالم.
و أخيراً وليس آخراً؛ تشكّل حركية العقل الاجتماعي، هو القوة الكبيرة لتحقيق مختلف الانجازات على مختلف الاصعدة، وهي الأداة التي إن تخلينا عن استغلالها خسرنا قوتنا وعزتنا، لذا كان الهدف المنشود يتمثل في السعي الدائم والعمل المتواصل لرفد المجتمع بوسائل الوعي المعاصر و إعطائه جرعات كبيرة من الوعي الديني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي و…الخ، لتتجه حركية العقل الاجتماعي بالاتجاه الصحيح صوب القضايا الكبرى للأمة، والمسائل الدولية التي تحدد مصيره وترسم مستقبله، لعلنا ننجح في صنع دولة كريمة، إن لم يكن لنا فلأجيالنا.

عن المؤلف

حيدر الرماحي

2 Comments

اترك تعليقا