أسوة حسنة

فاطمة المدرسة

فاطمة الزهراء، عليها السلام، مدرسة للأجيال عبر العصور والدُّهور منذ أن كانت إلى أن تنقضي الدنيا وأيامها، لا بل هي جامعة كبرى للفضيلة، والأخلاق الحسنة، والحياء، والعفة التي تتميَّز بها النساء، وفي تراثنا التاريخي والروائي الكثير من الروايات والأحاديث التي تروي لنا نتفاً من الحياة القصيرة للسيدة فاطمة، عليها السلام، إلا أنها تكفي لتعطينا دروساً ومناهج في التربية والتعليم، والمحافظة على عفتنا وفضيلتنا وأخلاقنا في المجتمع.

 فعن عليٍّ أنَّهُ كانَ عِندَ رسولِ اللَّهِ، صلَّى اللَّهُ عليهِ وآله، فقالَ: أيُّ شيءٍ خيرٌ للمرأةِ فسكتوا فلمَّا رجعتُ قلتُ لفاطمةَ: أيُّ شيءٍ خيرٌ للنِّساءِ؟ قالت: لا يَراهنَّ الرِّجالُ، فذَكرتُ ذلكَ للنَّبيِّ، صلَّى اللَّهُ عليهِ وآله، فقالَ: إنَّما فاطمةُ بَضعةٌ منِّي”(1).

ودخل عليها النبي، صلى الله عليه وآله، وقال لها: أي شئ خير للمرأة؟ قالت: “أن لا ترى رجلاً، ولا يراها رجل، فضمَّها إليه وقال: ذرية بعضها من بعض”(2).

⭐ دخل عليها النبي، صلى الله عليه وآله، وقال لها: أي شئ خير للمرأة؟ قالت: “أن لا ترى رجلاً، ولا يراها رجل، فضمَّها إليه وقال: ذرية بعضها من بعض

هذا أدب فاطمة، وهذا رأيها لبنات جنسها لكي لا تفتن الرجال ولا يفتنون بها، فهي لها عالمها الخاص، ورسالتها المستقلة، وحتى لها تكوينها المختلف في كل شيء عن الرجال، فلماذا تخالط الرجال، وعلى أي أساس يكون هذا الإختلاط؟

ويروى أن أمير المؤمنين، عليه السلام، في أثناء حكومته الراقية المقسطة، وحكمه العادل، حيث اختار العراق ليكون مقرَّه في الحكم، وفي هذه الدنيا حتى تقوم القيامة، ولذا هنا خصَّهم بالخطاب فقال: “يا أهل العراق؛ نُبِّئتُ أن نساءكم يدافعن الرجال في الطريق، أما تستحيون”، وفي حديث آخر أن أمير المؤمنين، عليه السلام قال: “أما تستحيون، ولا تغارون؛ نساءكم يخرجن إلى الأسواق، ويزاحمن العلوج”(3).

وفي رواية وموقف تعليمي آخر عن أبي عبد الله، عن أبيه، عليه السلام قال: “تقاضى عليٌّ وفاطمة إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله، في الخدمة، فقضى على فاطمة بخدمة ما دون الباب، وقضى على عليٍّ بما خلفه، قال: فقالت فاطمة: فلا يعلم ما داخلني من السرور إلا الله بإكفائي رسول الله، صلى الله عليه وآله، تحمُّل رقاب الرجال”(4)، تلك هي رسالة المرأة التربوية، وهي رسالة مقدسة، تقع عليها تنشئة الأجيال، وتربية الرجال، الذين ينحتون الجبال ويبنون الحضارة على أكتافهم القوية.

ونحن في هذا الزمن الأغبر، وتحكمنا هذه الحضارة الفاسقة والفاسدة أُجبرنا على الخروج ولكن لا أحد يستطيع أن يُجبرنا على مزاحمة العلوج في الطريق، والأسواق، بل نجبرهم على احترامنا بالتزامنا بأخلاقنا الإسلامية، وحجابنا، وعباءتنا الزينبية، وعفتنا وحيائنا وقدوتنا الفاطمية، فلا ننساق وراء هذه المظاهر الخلابة، وما هي إلا فقاعات لامعة ستمضي سريعاً وأمامنا جنات عرضها السماوات والأرض، فلا نكن حطباً في النار يشتعل كما قال الشاعر.

فكم تحتاج بناتنا ونسائنا وبيوتنا للثقافة الفاطمية، والأدب الزهرائي، والأخلاق الفاضلة التي كانت تطفح عبقاً وفضيلة من بيوتنا نحن أتباع أئمة أهل البيت، عليهم السلام، وشرفنا وفخرنا وما يميِّزنا عن غيرنا أننا نقتدي بالسيرة العطرة للسيدة فاطمة الزهراء، عليها السلام، وبضعتها الغالية المجاهدة الأولى في هذه الحياة، بطلة كربلاء وشريكة الإمام الحسين، عليه السلام، في نهضته العملاقة، السيدة زينب الكبرى، عليها السلام، تلك البنت التي ضربت أمثلة لا تنتهي للنساء والبنات في كل الساحات، فهي عندما كانت في بيت أبيها، أو انتقلت إلى بيت زوجها، لم يَرَ خيالها، ولم يَسمعْ صوتها إنسان قط، ولكن عندما حتَّمت عليها الظروف أن تخرج مع أخيها لنصرة دين الله كانت لبوة حيدرية، وصوتاً فاطمياً، أعاد الطغاة أقزاماً أمامها وهي أسيرة سبية ترفل في القيود، وربما الحديد، كما فعلت أمها في خطبتها الفدكية التي قزَّمت كل الرجال ممَّن يسمونهم الصَّحابة، من السلطة وغيرها، بقوة منطقها، وسلامة حجتها، وعمق إيمانا بربها، وتمسكها بحقها المغتصب حتى آخر لحظة من حياتها الشريفة.

فالسيدة زينب، وأم كلثوم، وأم البنين، والرباب، ورملة، وبنت الهدى، وكثير غيرهن كلهن تربوا في المدرسة الفاطمية على العفَّة التي أرادها الله ـ تعالى ـ للمرأة منذ أن خلقها ووضع فيها كل ما تحتاجه لتكون محبوبة ومرغوبة ومطلوبة، والآن تحولت إلى جامعة نسوية كبرى يجب أن نربِّي فيها بناتنا، ونساءنا ليكون لدينا الآلاف من النساء الزينبيات الفاضلات، فذاك العدو الذي يسمونه مستشرق، كتب مقالاً عن السيدة زينب، عليها السلام، وهو “إدوارد مونتاغيوا” نشره في الصحف البريطانية في أعقاب الحرب العالمية الثانية يقول فيه: “لقد فتَّشنا في كتب العرب التاريخية كإبن الأثير (في الكامل)، والمسعودي (في المروج)، وغيرهم من فحول المؤرخي فعثرنا على خطبة للسيدة زينب، ومن فقراتها: “فكد كيدك واسع سعيك فولله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا ولن تُدرِك أمدنا..”(5).

مَنْ هي هذه المرأة؟ إن أقوالها تفلق الحجر لقوَّتها وهي امرأة إنها تهدد عرشاً عظيماً كعرش يزيد بن معاوية، وحسب ما تعرَّفنا على سيرته هو من أشباهنا نحن الغربيين .. فنحن في أوروبا نتعاطى الخمور ونتسلى بالمراقص الليلية ونتسامر عبر العلاقات الجنسية، وغيره الكثير، أما زينب فهي شبيهة بالسيدة العذراء!

⭐ كم تحتاج بناتنا ونسائنا وبيوتنا للثقافة الفاطمية، والأدب الزهرائي، والأخلاق الفاضلة

حقيقة نعترف فيما بيننا أن هذه المرأة تشكل خطراً كبيراً يهدد ليس فقط عرش يزيد بل كل عرش مثل عرش يزيد.. إذن زينب تهددنا نحن أيضاً من أين قطعت أن يزيد لن يكون بإمكانه محو ذكرها هي وعائلتها؟ إن هذا التحدي يجب أن يوضع على طاولة البحث والتحليل، ومن أين قطعت أن رأيه سيكون بدداً، وأن عرشه سيسقط؟ إن السيدة العذراء عندنا لم تتحدى الأمبراطور الكبير ولا زعيم كهنة الكنيسة، إذن زينب أخطر من العذراء بكثير لكن ما هي القوة التي كانت تهدد بها مملكة يزيد، هذا ما يدفعنا للتأمل والتخوف إن زينب هذه يجب أن تموت، ويجب أن لا تأتي زينبات أخريات وإلا هلكت عروشنا، يجب أن نقتل كل زينب، ولذا يتحتم علينا معرفة كل مَنْ تحمل من زينب أي مبدأ، أو قيم، أو خلق، أو فكر، أو سياسة، فنضع لها كمينا نسحقها به ونقلل من شأنها، علينا أن نؤسس ثقافة تطارد زينب وتحطِّمها فلا تجد لها مَنْ يقتدي بها فيموت أثرها شيئاً فشيئاً فتخلو لنا عروشنا”(6).

نعم؛ الأعداء يخافون من السيدة زينب، عليها السلام، ولا يخافون من أخيها سيد الشهداء، ولا حتى من أبيها أمير المؤمنين، عليها السلام، وسيفه ذو الفقار، لأنهم يعرفون أن المرأة أساس المجتمع، وهي التي تربِّي الرجال الأبطال في حجرها وفي بيتها، ولذا قال نابليون القائد الفرنسي مقولته الشهيرة: “المرأة التي تهز المهد بيمينها، تهز العالم بشمالها”، وقال حكيم إغريقي: “ابتسامة المرأة تبني حضارة”، ولكن بشرط أن تكون في المحل الذي اختارها الله له.

كفاطمة الزهراء، عليها السلام، التي كانت تزهر لأمير المؤمنين، عليها السلام، ثلاث مرات في اليوم، وتربي أبناءها على القيم والفضائل وآيات السماء، كما كان يروي عنها ولدها وبكرها الإمام الحسن المجتبى، عليها السلام،: “رأيتُ أمي فاطمة، عليها السلام، قامت في محرابها ليلة جمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتضح عمود الصبح وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسمِّيهم وتكثر الدعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشيء، فقلتُ لها: يا أماه لمَ لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا بُنَىَّ! اَلجارُ ثُمَّ الدّارُ”(7). أليس بهذه الأخلاق وهذه الروحية والأريحية تُبنى الحضارة الإنسانية، إذ أن الحضارة هي عبارة عن حضور الإنسان عند أخيه الإنسان، والتعامل معه بمنظومة قيمة فاعلة كاملة وشاملة تنظر إلى الجميع على قدم المساواة، ويكون فيها صوت الحق والصدق هو الأعلى دوماً، أ ليس هذا درساً حضارياً من تحيَّة الرحمن لهذا الإنسان والإنسانية المعذبة؟


المصادر:

  1. مختصر زوائد البزار؛ لابن حجر العسقلاني: ج 1 ص567.
  2. بحار الأنوار؛ العلامة المجلسي: ج ٤٣ ص ٨٤.
  3. الكافي؛ الشيخ الكليني: ج ٥ ص ٥٣٧.
  4. بحار الأنوار؛ العلامة المجلسي: ج ٤٣ ص ٨١.
  5. بلاغات النساء؛ احمد بن ابي طاهر طيفور: ص۳٥ ومثير الأحزان: ص 80 واللهوف: ص 70.
  6. كثيرة مصادره على مواقع الشبكة العنكبوتية.

بحار الأنوار؛ العلامة المجلسي: ج ٤٣ ص ٨١.

عن المؤلف

أ.د سادسة حلاوي حمود ــ جامعة واسط ــ قسم تاريخ الأندلس والمغرب

اترك تعليقا