ولد الإمام جعفر بن محمد الصادق، عليه السلام، في 17 ربيع الأول 80 هـ في المدينة المنورة
- مقدمة هامة
يقول الجاحظ: “جعفر بن محمّد الذي ملأ الدنيا علمه وفقهه”.
نعم؛ الإمام جعفر بن محمد الصادق، عليه السلام، هو كان، ومازال وسيبقى مالئ الدنيا وشاغل الناس، بعلمه، وفضله، ونوره، وإمامته، وكل ما صدر منه، وعنه صلوات الله عليه، لأن ما صدر منه الكثير الذي لا يُعد، ولا يُحد، فهو كالبحر الخضم، حتى أن الزنديق المعروف ابن أبي العوجاء قال لأصحابه بعد حواره مع الإمام الصادق، عليه السلام، : مَنْ أَلقاني في بحر هذا، وفي رواية ابن الوليد: مَنْ أَلْقَانِي فِي بَحْرِ هَذَا! سَأَلْتُكُمْ أَنْ تَلْتَمِسُوا لِي خُمْرَةً (حصيرة) فَأَلْقَيْتُمونِي عَلَى جَمْرَةٍ.
📌العالم الإسلامي بكل طوائفه، وفقهه ومعارفه تدين للإمام الصادق، عليه السلام، بطريق من الطرق
فقالوا له: ما كنتَ في مجلسه إلاّ حقيراً فقال: إنَّهُ ابْنُ مَنْ حَلَقَ رُؤُوسَ مَنْ تَرَوْنَ!، أي إنه ابن رسول الله، حقاً وصدقاً، سبباً ونسباً ورسالة ومنهجاً قويماً وصراطاً مستقيماً.
والعجيب ـ ولا عجب من أمر الله وحكمته ـ ولكن نتحدث بلسان البشر وفكرهم ومقدار عقولهم، في أن يكون مولد هذا الإمام الهمام العظيم بنفس يوم مولد جده رسول الله الكريم (ص) فهل هي صدفة كما يقول الناس، أو أنها حكمة من ورائها تشير إلى أن بقاء واستمرار وتجديد هذا الدِّين وهذه الرسالة المحمدية سيكون من فيض علم وحكمة وفقه وتفسير هذا الحفيد الذي سيكون واسطة عقد الإمامة في أئمة أهل البيت، عليهم السلام.
- الإمام الصادق، عليه السلام، إمام الأمة
العالم الإسلامي بكل طوائفه، وفقهه ومعارفه تدين للإمام الصادق، عليه السلام، بطريق من الطرق لأنه إمام الأمة الإسلامية بكل فخر وامتياز لأن في عهده المضطرب جداً، لأنه عاش في عصر مخضرم ما بين الأمويين الهالكين، والعباسيين المتهالكين على كرسي السلطة، فنشأت كل المذاهب وظهر كل العلماء الأعلام وأئمة المذاهب الباقية والمنقرضة في عصره وكلهم كانوا من تلاميذه، أو تلاميذ تلاميذه، فالباحث المدقق يجد أن هذه الحقيقة واضحة وضوح الشمس في رائعة النهار العربي والإسلامي.
الإمام الصادق، عليه السلام، هو الإمام الذي اعترفت بفضله وإمامته كل المدارس الإسلامية والمذاهب الفقهية والكلامية وحتى الفلسفية منها، وهذا ما اعترف به كبار العلماء والأعلام منهم ونأخذ بعض الشهادات ولسنا بحاجة إليها ولكن ليطَّلع القارئ الكريم على صدق دعوانا ولا يظن أننا نطري إمامنا الصادق، عليه السلام، وهو غني عن ذلك قطعاً وصدقاً.
- الإمام الصادق، عليه السلام، أستاذ الأئمة
والحقيقة الواقعية تقول: إن الإمام الصادق، عليه السلام، إمام الأمة الإسلامية سواء مَنْ قال بإمامته أو لم يقل بها وذلك لأنه أستاذ الأئمة فيها جميعاً، ففي عصره صارت المذاهب والفرق، وظهرت الاتجاهات الفكرية والكلامية والفقهية المختلفة ولكنهم جميعاً ينتسبون على الإمام الصادق، عليه السلام، ومدرسته إما مباشرة كأبي حنيفة وسفيان الثوري، أو عن طريق تلاميذه كمالك والشافعي وغره من أئمة المذاهب الإسلامية المعروفين.
يقول الشيخ كمال الدّين بن طلحة الشافعيّ عند ذكره الإمام الصادق، عليه السلام، في “مطالب السؤول في مناقب آل الرسول: “نقل عنه الحديث واستفاد منه العِلم جماعة من أعيان الأئمّة وأعلامهم؛ مثل يحيى بن سعيد الأنصاريّ، وابن جريح، ومالك بن أنس، والثوريّ، وابن عيينة، وأبي حنيفة، وشعبة، وأيّوب السجستانيّ، وغيرهم، وعدّوا أخذهم منه منقبة شُرّفوا بها، وفضيلة اكتسبوها”.
ويقول أبو بحر الجاحظ في ذلك: “إنّ أبا حنيفة من تلامذته وكذلك سفيان الثوريّ، وحسبك بهما في هذا الباب”، أي أنهما ممَّن لا يُنكر في العلم والفقه في الأمة، وهما من تلاميذ الإمام جعفر الصادق، عليه السلام، الذي لم يحدِّث التاريخ أنه تتلمذ على يد مخلوق من البشر إلا جده زين العابدين ووالده باقر علوم الأنبياء والمرسلين، عليه السلام، ولذا كان الإمام الصادق ينقل بلا واسطة عن جده رسول الله، لأنه حفيده المبرَّز في عصره، والعجيب أنه ما كان يروي عن جده رسول الله، إلا إذا كان على وضوء كما يحدثون عنه، عليه السلام،، وعندما يُحدِّث عنه، يتغير لونه إحتراماً وإجلالاً له.
وقال محمّد بن طلحة الشافعي (ت 652 هـ) عنه: هو من عظماء أهل البيت، عليه السلام، وساداتهم ذو علوم جمّة، وعبادة موفورة، وأوراد متواصلة، وزهادة بيّنة، وتلاوة كثيرة، يتتبع معاني القرآن الكريم، ويستخرج من بحره جواهره، ويستنتج عجايبه، ويقسم أوقاته على أنواع الطاعات، بحيث يحاسب عليها نفسه، رؤيته تذكّر الآخرة، واستماع كلامه يزهّد في الدنيا، والاقتداء بهديه يورث الجنة، نور قسماته شاهد أنه من سلالة النبوّة، وطهارة أفعاله تصدع أنه من ذريّة الرسالة، نقل عنه الحديث واستفاد منه العلم جماعة من الأئمة وأعلامهم.. وعدّوا أخذهم عنه منقبة شرّفوا بها وفضيلة اكتسبوها”.
- عظمة الإمام الصادق
الإمام في الأنام مقياس وميزان، فهو إمام مقتدى به في كل شيء من أمورهم لا أموره لأنه المعيار الذي أُمروا باتباعه وأما هو فإن أمره بيد الله تعالى، وتكليفه مستقلاً عن تكليفهم، ولذا عندما نتحدَّث عن الفضل والفضيلة للإمام، عليه السلام، فإننا نتحدث عن الإنسان الكامل في الإنسانية ولا نخص الحديث بالجانب الأخلاقي، أو القيمي، أو العلمي فقط، بل نتحدث عن إنسان كامل ومتكامل بكل الجهات والنواحي والخصال.
يقول ابن طلحة الشافعي عن فضله ومناقبه، عليه السلام،: “وأمّا مناقبه وصفاته فتكاد تفوق عدد الحاصر، ويحار في أنواعها فهم اليقظ الباصر، حتّى أنّ من كثرة علومه المفاضة على قلبه من سجال التقوى صارت الأحكام التي لا تدرك عللها، والعلوم التي تقصر الأفهام عن الإحاطة بحكمها تضاف إليه وتروى عنه..”.
وقال ابن الصبّاغ المالكي (784 ـ 855 هـ): “نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر صيته وذكره في سائر البلدان، ولم ينقل من العلماء عن أحد من أهل بيته ما نقل عنه من الحديث”، وهنا لا يفوتنا أن نغترف غرفة من بحر الإمام الصادق، عليه السلام، في جلسة وموقف مع أحد كبار ملحدي عصره، حيث يعترف بهذا الموقف بعظمة هذا الإمام الأستاذ، في كل ما فيه، ألا وهو ابن أبي العوجاء، في حواره مع ابن المقفَّع الأديب المعروف، والذي افتتح الكلام بشهادة قلَّما تجدها في التاريخ البشري في مثل ذاك الموقف وتلك الظروف والناس يطوفون بالبيت الحرام فيدلي بشهادته للإمام الصادق، عليه السلام،.
- رُوحَانِيٌّ يَتَجَسَّدُ إِذَا شَاءَ ظَاهِراً
قَالَ الرَّاوِي: كُنْتُ أَنَا وَاِبْنُ أَبِي اَلْعَوْجَاءِ وَعَبْدُ اَللَّهِ بْنُ اَلْمُقَفَّعِ فِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ فَقَالَ اِبْنُ اَلْمُقَفَّعِ: تَرَوْنَ هَذَا اَلْخَلْقَ – وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى مَوْضِعِ اَلطَّوَافِ – مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ أُوجِبُ لَهُ اِسْمَ اَلْإِنْسَانِيَّةِ إِلاَّ ذَلِكَ اَلشَّيْخُ اَلْجَالِسُ – يَعْنِي أَبَا عَبْدِ اَللَّهِ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ، عليه السلام، فَأَمَّا اَلْبَاقُونَ فَرَعَاعٌ وَبَهَائِمُ. (تأمل بهذه الشهادة أرجوك عزيزي).
📌 الإمام في الأنام مقياس وميزان، فهو إمام مقتدى به في كل شيء من أمورهم لا أموره لأنه المعيار الذي أُمروا باتباعه وأما هو فإن أمره بيد الله تعالى
فَقَالَ لَهُ اِبْنُ أَبِي اَلْعَوْجَاءِ: وَكَيْفَ أَوْجَبْتَ هَذَا اَلاِسْمَ لِهَذَا اَلشَّيْخِ دُونَ هَؤُلاَءِ؟
قَالَ: لِأَنِّي رَأَيْتُ عِنْدَهُ مَا لَمْ أَرَهُ عِنْدَهُمْ، فَقَالَ لَهُ اِبْنُ أَبِي اَلْعَوْجَاءِ: لاَ بُدَّ مِنِ اِخْتِبَارِ مَا قُلْتَ فِيهِ مِنْهُ!
قَالَ فَقَالَ لَهُ اِبْنُ اَلْمُقَفَّعِ: لاَ تَفْعَلْ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يُفْسِدَ عَلَيْكَ مَا فِي يَدِكَ،
فَقَالَ: لَيْسَ ذَا رَأْيَكَ وَلَكِنْ تَخَافُ أَنْ يَضْعُفَ رَأْيُكَ عِنْدِي فِي إِحْلاَلِكَ إِيَّاهُ اَلْمَحَلَّ اَلَّذِي وَصَفْتَ، فَقَالَ اِبْنُ اَلْمُقَفَّعِ: أَمَّا إِذَا تَوَهَّمْتَ عَلَيَّ هَذَا فَقُمْ إِلَيْهِ وَتَحَفَّظْ مَا اِسْتَطَعْتَ مِنَ اَلزَّلَلِ وَلاَ تَثْنِي عِنَانَكَ إِلَى اِسْتِرْسَالٍ فَيُسَلِّمَكَ إِلَى عِقَالٍ وَسِمْهُ مَا لَكَ أَوْ عَلَيْكَ.
قَالَ: فَقَامَ اِبْنُ أَبِي اَلْعَوْجَاءِ وَبَقِيتُ أَنَا وَاِبْنُ اَلْمُقَفَّعِ جَالِسَيْنِ فَلَمَّا رَجَعَ إِلَيْنَا اِبْنُ أَبِي اَلْعَوْجَاءِ قَالَ: وَيْلَكَ يَا اِبْنَ اَلْمُقَفَّعِ؛ مَا هَذَا بِبَشَرٍ وَإِنْ كَانَ فِي اَلدُّنْيَا رُوحَانِيٌّ يَتَجَسَّدُ إِذَا شَاءَ ظَاهِراً، وَيَتَرَوَّحُ إِذَا شَاءَ بَاطِناً، فَهُوَ هَذَا.
فَقَالَ لَهُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: جَلَسْتُ إِلَيْهِ فَلَمَّا لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ غَيْرِي اِبْتَدَأَنِي فَقَالَ: إِنْ يَكُنِ اَلْأَمْرُ عَلَى مَا يَقُولُ هَؤُلاَءِ – وَهُوَ عَلَى مَا يَقُولُونَ يَعْنِي أَهْلَ اَلطَّوَافِ- فَقَدْ سَلِمُوا وَعَطِبْتُمْ، وَإِنْ يَكُنِ اَلْأَمْرُ عَلَى مَا تَقُولُونَ – وَلَيْسَ كَمَا تَقُولُونَ- فَقَدِ اِسْتَوَيْتُمْ وَهُمْ.
فَقُلْتُ لَهُ: يَرْحَمُكَ اَللَّهُ وَأَيَّ شَيْءٍ نَقُولُ؟ وَأَيَّ شَيْءٍ يَقُولُونَ؟ مَا قَوْلِي وَقَوْلُهُمْ إِلاَّ وَاحِدٌ!
فَقَالَ: وَكَيْفَ يَكُونُ قَوْلُكَ وَقَوْلُهُمْ وَاحِداً وَهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ لَهُمْ مَعَاداً، وَثَوَاباً، وَعِقَاباً، وَيَدِينُونَ بِأَنَّ فِي اَلسَّمَاءِ إِلَهاً، وَأَنَّهَا عُمْرَانٌ وَأَنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ اَلسَّمَاءَ خَرَابٌ لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ.
قَالَ: فَاغْتَنَمْتُهَا مِنْهُ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا مَنَعَهُ إِنْ كَانَ اَلْأَمْرُ كَمَا يَقُولُونَ أَنْ يَظْهَرَ لِخَلْقِهِ وَيَدْعُوَهُمْ إِلَى عِبَادَتِهِ حَتَّى لاَ يَخْتَلِفَ مِنْهُمُ اِثْنَانِ وَلِمَ اِحْتَجَبَ عَنْهُمْ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ اَلرُّسُلَ وَلَوْ بَاشَرَهُمْ بِنَفْسِهِ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى اَلْإِيمَانِ بِهِ؟
فَقَالَ لِي: وَيْلَكَ وَكَيْفَ اِحْتَجَبَ عَنْكَ مَنْ أَرَاكَ قُدْرَتَهُ فِي نَفْسِكَ نُشُوءَكَ وَلَمْ تَكُنْ وَكِبَرَكَ بَعْدَ صِغَرِكَ وَقُوَّتَكَ بَعْدَ ضَعْفِكَ وَضَعْفَكَ بَعْدَ قُوَّتِكَ وَسُقْمَكَ بَعْدَ صِحَّتِكَ وَصِحَّتَكَ بَعْدَ سُقْمِكَ وَرِضَاكَ بَعْدَ غَضَبِكَ وَغَضَبَكَ بَعْدَ رِضَاكَ وَحُزْنَكَ بَعْدَ فَرَحِكَ وَفَرَحَكَ بَعْدَ حُزْنِكَ وَحُبَّكَ بَعْدَ بُغْضِكَ وَبُغْضَكَ بَعْدَ حُبِّكَ وَعَزْمَكَ بَعْدَ أَنَاتِكَ وَأَنَاتَكَ بَعْدَ عَزْمِكَ وَشَهْوَتَكَ بَعْدَ كَرَاهَتِكَ وَكَرَاهَتَكَ بَعْدَ شَهْوَتِكَ وَرَغْبَتَكَ بَعْدَ رَهْبَتِكَ وَرَهْبَتَكَ بَعْدَ رَغْبَتِكَ وَرَجَاءَكَ بَعْدَ يَأْسِكَ وَيَأْسَكَ بَعْدَ رَجَائِكَ وَخَاطِرَكَ بِمَا لَمْ يَكُنْ فِي وَهْمِكَ وَعُزُوبَ مَا أَنْتَ مُعْتَقِدُهُ عَنْ ذِهْنِكَ.. وَمَا زَالَ يُعَدِّدُ عَلَيَّ قُدْرَتَهُ اَلَّتِي هِيَ فِي نَفْسِي اَلَّتِي لاَ أَدْفَعُهَا حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيَظْهَرُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ”.
- وأخيراً
هكذا هو إمامنا وسيدنا ومولانا ومقتدانا الإمام جعفر الصادق، عليه السلام، إمام الأمة بالنصِّ والجدارة، وأستاذ أئمتها بالتعليم والتفهيم والتفقيه لهم، ولكن هذه الأمة كعادتها تترك أهل بيت نبيها الأطهار الأبرار، عليه السلام، وتذهب خلف الأغيار باحثة عمَّا يخلصها من النار، ولكن هل سألت نفسها يوماً هذا السؤال: هل هذا الإمام الذي جعلوه بينهم وبين الله قادر على خلاص نفسه من النار وغضب الجبار؟
والحديث المتواتر يقول: “مَنْ مات ولم يعرف إمام زمنه مات ميتة جاهلية”، فلو سألوا أولئك الأئمة عن إمامهم ألا يقولون: الإمام الصادق، عليه السلام، ويفتخرون بإمامته، كما كانوا يفتخرون بتتلمذهم عنده؟