في 18 ذي الحجة تم تنصيب الحاكم المثال في دنيا الإنسانية؛ ولايةً، وحكومة
- مقدمة في المثال
قالوا: “إنَّه مَنْ يتحلَّى إلَى أَسْمى دَرَجة، إلَى حُدُودِ الكَمَالِ، بِبَعضِ صِفَاتِ، أَو مَيِّزَاتٍ تَسْتحِقُّ أن يُقْتَدَى بِهَا، أو صُورَةُ الكَمَالِ الفَنِّيّ، أي النَمُوذج”، فالمثال هو النموذج، وهو المقياس، وهو الكامل من حيث الصَّنعة، ومن حيث الخلقة، ومن حيث الوجود الأمثل، ليكون قدوة وأسوة للآخرين في حياتهم، ومن هنا يأتي ضرورة التربية بالقدوة.
والمثال في كل شيء بحسبه، ووفقه، هو الذي يحمل الصفات الأكمل في ذلك الشيء، ومن كل الجوانب والنواحي، المادية والمعنوية، وفي البشرية هو الإنسان الكامل في الإنسانية وفي الصفات الايجابية الكمالية، ولا كامل في الوجود إلا للخالق ـ تعالى ـ، ولكن كلامنا عن الوجود المثال الأكمل من حيثية الوجود البشري، فالإنسان الكامل هو الإنسان الذي اصطفاه الله ـ تعالى ـ، وأكمله، وفضَّله، وأرسله للعالمين رحمة، ومبشراً بالجنة، ونذيراً من العذاب الأليم، وذلك هو الرسول الأكرم محمد المصطفى، صلى الله عليه وآله، وعترته الطاهرة من أهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً ليكونوا مقاييس، وموازين للبشرية في كمالاتهم، وفضائلهم، ووجودهم المقدس في هذه الدنيا عامة، والمسلمين خاصة فهم الذين أكملهم الباري، وعصمهم من الزلل والخطل وجعلهم للناس نبراساً.
- الإمام علي عليه السلام الإنسان المثال
إن كل مَنْ درس التاريخ العربي والإسلامي يعلم علم اليقين أن الإمام علي، عليه السلام، هو مخلوق كامل، وإنسان مثال، وهو المقياس، والميزان، والنموذج للإنسانية، والفضائل والكمالات البشرية، ولذا حدَّده وبيَّنه الرسول الأكمل، والقائد الأشمل، وأشار إليه ليكون للعالمين نبراساً ومتراساً، وقال فيه الآلآف من الأحاديث والروايات الصحيحة والمتواترة كقوله، صلى الله عليه وآله: “علي مع الحق والحق مع علي، و”علي مع القرآن والقرآن مع علي، لا يفترقان حتى يردا عليَّ الحوض”، فهذا ليس ترفاً فكرياً من الرسول الأعظم، صلى الله عليه وآله، أو مديح وثناء للصهر، أو ابن العم، أو أي شيء مما يظنه المقَعدون فكرياً وعقائدياً، بل هو مرُّ الحق، وصرف الصدق.
📌صفات الحاكم في شريعة السماء هو العالم بها المطبِّق لها، والقادر على تعليمها، وبيانها للناس وتأديبهم عليها
وعلي، عليه السلام، هو الإنسان الكامل في كل الصفات والفضائل الإنسانية ولذا صار محوراً للحق والقرآن الحكيم، ولذا قال الإمام علي، عليه السلام: “أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ جَعَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً بِوِلاَيَةِ أَمْرِكُمْ، وَلَكُمْ عَلَيَّ مِنَ الْحَقِّ مثْلُ الَّذِي لِي عَلَيْكُمْ، فَالْحَقُّ أَوْسَعُ الْأَشْيَاءِ فِي التَّوَاصُفِ، وَأَضْيَقُهَا فِي التَّنَاصُفِ، لاَ يَجْرِي لِأَحَد إِلاَّ جَرَى عَلَيْهِ، وَلاَ يَجْرِي عَلَيْهِ إِلاَّ جَرَى لَهُ”، فالحق هو المحور للحاكم والمحكوم، فالحاكم يكون مثالاً للحق، والمحكوم يجري له أو عليه الحق بالتناصف.
- الإمام علي، عليه السلام، الحاكم المثال
في هذا الظرف الراهن، حيث اختلطت المفاهيم، ودخل الحابل بالنابل، واختلط الحق بالباطل، ورحنا نسمع ونقرأ أسماء وصفات تُنسب إلى الإسلام والفكر الإسلامي وهي قاصرة، أو غير تامة لأنها عوراء تنظر من عين واحدة وهي عين الدنيا فقط، فينظرون إلى الحاكم وصفاته في الفكر والتجريد دون التشخيص في الواقع، فنبقى في صورة الخيال دون أن ننزل إلى أرض الواقع، وهذا مقتل للفكر لأنه يبقى في دائرته، وللأمة لأنها تبقى في حكم الطغاة والجبارين وتحلم بحكم ذاك الإنسان المثال ولن تجده إلا في الأحلام.
فالخالق العظيم عندما أكمل رسوله واصطفاه واختاره على علم على العالمين، حدد لنا وظيفته في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}. (الجمعة: 2).
فمَنْ يستطيع أن يفعل ذلك هو الحاكم الفعلي على هذه الأمة الإسلامية، ولكن يأتيك مَنْ يأخذ تعريفه من الموسوعات الغربية، أو الشرقية، وهي عوراء أو عمياء لأنها لا تعرف معنى للغيب أو ما وراء الطبيعة ليقول لك في تعريف الحاكم: “هو الذي يقوم بإدارة شؤون الأُمَّة وتصريف أمورها وتلبية متطلباتها ومستلزماتها، كالعيش والسّكن والمأكل والملبس والتعليم، والمحافظة على المال العام وعدم هدره، وغير ذلك”.
فأين هذا من الفكر القرآني، والفقه الإسلامية، والكلام الإيماني أيها العزيز؟ وينسب ذلك إلى الإمام علي، عليه السلام، للأسف الشديد، وهو الذي يقول: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً، وَلَكُمْ عَلَيَّ حَقٌّ: فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَيَّ: فَالنَّصِيحَةُ لَكُمْ، وَتَوْفِيرُ فَيْئِكُمْ عَلَيْكُمْ، وَتَعْلِيمُكُمْ كَيْلا تَجْهَلُوا، وَتَأْدِيبُكُمْ كَيْما تَعْلَمُوا وَأَمَّا حَقِّي عَلَيْكُمْ: الوَفَاءُ بِالبَيْعَةِ، وَالنَّصِيحَةُ في الْمَشْهَدِ وَالْمَغِيبِ، وَالإِجَابَةُ حِينَ أَدْعُوكُمْ، وَالطَّاعَةُ حِينَ آمُرُكُمْ”.(نهج البلاغة: 34).
فصفات الحاكم في شريعة السماء هو العالم بها المطبِّق لها، والقادر على تعليمها، وبيانها للناس وتأديبهم عليها، ويُترك الأمور الدنيوية للناس بعد أن يُبيِّن لهم الحقوق، ويُحدد لهم الحدود، ويمنعهم من تجاوزها بما يملكه من قوة الحق، وعدل الحكم، وحجة القضاء، والحزم في تنفيذ شرع الله ـ سبحانه وتعالى ـ، فأين ذلك كله من ذلك التعريف الأعور الذي ينظر إلى الحاكم الإسلامي ليس بفكر وأقوال الإمام علي، عليه السلام، فقط، بل عليه أن ينظر إلى شخصية الإمام علي، عليه السلام، وتطبيقه لأقواله، وأفكاره في أفعاله، وممارساته اليومية للحكم في الأمة الإسلامية وبذلك نقرن الفكر بالواقع، والكلام بالعمل، والحُكم بالعدل والقسط.
فعظمة أفكار وأقوال أمير المؤمنين الإمام علي، عليه السلام، الحاكم أنها اقترنت بعظمته الفعلية، وتطبيقاته العملية، وحياته الواقعية في الأمة الإسلامية، فأعطانا الفكر من جهة، وأرانا تطبيقه، وتجسيده من جهة أخرى، فلم يدعها في بطون الكلام، وضمائر الغيب حتى يؤولها كل حاكم على هواه، بل أخرجها وعاشتها الأمة في ظلِّ حكومته لخمس سنوات، فكان المثال الأتقى، والأنقى للحاكم الميزان في أقواله، وأفعاله روحي له الفداء.
- ما هي صفات الحاكم؟
وهنا يخطر في البال والذهن أن يسأل عن صفات الحاكم في الدِّين الإسلامي الحنيف، فينظرون إلى كلمات أمير المؤمنين والنورانية، وخطبه الراقية، وحِكمه الثمينة ليُعددوا لك خمسة عشر صفة استفادوها من عهده الحُكمي الراقي لمالك الأشتر النخعي حينما ولاه على مصر ليحكمها فيُعلم أهلها، ويؤدبهم، ويعمِّر أرضها، ويستصلح بلادها، وهي القيم الخاصة بسلوك الحاكم مع الرعية وليست من صفاته، وهي: (العدل والإنصاف في التعامل، وعمارة الأرض، واعتماد مبدأ التدرج الوظيفي، وعدم إشعار الرعية بالمنّية، ومراقبة الحاشية، والمتملقين، والمنافقين، والأصغاء لعامة الناس، والأبتعاد عن الغضب المؤذي والقسوة).
فهذا الأسلوب الأمثل للحاكم مع الرعية، وأما صفات الحاكم فهي في الإمام علي، عليه السلام، وليس في مالك الأشتر، رضوان الله عليه مع ما له من شخصية عظيمة حقاً ولكن الله ـ سبحانه ـ لم يجعله مثلاً بل جعله إنساناً يقتدي بسيده ومولاه وإمامه في حياته.
فعظمة مالك الأشتر أنه تماهى بمحبته ومودته وإخلاصه لإمامه علي، عليه السلام، الحاكم المثال الذي جعله الله على الناس حاكماً، وإماماً ليقتدوا به ويتأسوا بسيرته العطرة لأنها سيرة الإنسان الطاهر المطهر المعصوم، وسيرة الحاكم العادل المقسط في حياته، ومما روي عن الإمام عَلِيّ بن أبي طالب، عليه السَّلَام، أنَّه قال لأبي هريرة، وأبي الدّرداء ليبلغاه إلى معاوية: “والواجب في حكم الله وحكم الإسلام على المُسلمين بعد ما يموت إمامهم أو يقتل ضالًّا كان أو مهتديًا، مظلومًا كان أو ظالمًا، حلال الدّم أو حرام الدّم أن لا يعملوا عملًا ولا يحدثوا حدثًا، ولا يقدموا يدًا ولا رجلًا، ولا يبدؤوا بشيء قبل أن يختاروا لأنفسهم إمامًا، عفيفًا، عالمًا، ورعًا، عارفًا بالقضاء، والسُّنَّة”.
📌الحاكم المثال في الشريعة الإسلامية والدِّين السماوي الخاتم هو ما جسَّده قولاً وعملاً أمير المؤمنين الإمام علي، عليه السلام
فهذه صفات الحاكم الذي على الأمة أن تخضع له وتمنحه ثقتها وتخضع له بإرادتها طواعية ليقودها في صراط الحياة المستقيم، لا أن يُدخلها في متاهات الشيطان والضلال وظلمات الطغاة من حكام الجور وسلاطين الظلم، ومن المروي عن أمير المؤمنين، عليه السَّلَام: “العدل صورة واحدة، والجور صور كثيرة، ولهذا سهل ارتكاب الجور، وصعب تحرّي العدل، وهما يشبهان الإصابة في الرّماية والخطأ فيها، وإنَّ الإصابة تحتاج إلى ارتياض وتعهّد، والخطأ لا يحتاج إلى شيء من ذلك”.
فالحاكم المثال في الشريعة الإسلامية والدِّين السماوي الخاتم هو ما جسَّده قولاً وعملاً أمير المؤمنين الإمام علي، عليه السلام، وإلا فالبشر ينظرون إلى نمرود إبراهيم، وفرعون موسى، وأبو سفيان محمد، ومعاوية علي، صلوات الله على حكام الله في أرضه، وأما أولئك الطغاة الذين حكموا ليتحكموا في البلاد والعباد ولا شأن لهم في العدل، أو القسط الذي أمر الله ـ سبحانه ـ عباده به.
وحكامنا اليوم ينظرون إلى سيرة حاكم البيت الأسود، والإليزيه، والكرملن، وبكين، ولندن، ويُحاول أن يقتدي بهم، ويتحدث عن الديمقراطية العرجاء، وينسى قدوته، ومثاله، وحاكمه، وإمامه العظيم الذي جعله الله له قدوة، وأسوة في حكمه، وهو الذي يقول: “أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ، وَيَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِهِ، أَلَا وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اِكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ، وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ.. أَلَا وَإِنَّكُمْ لاَ تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ، وَاِجْتِهَادٍ، وَعِفَّةٍ وَسَدَادٍ.. فَوَ اللَّهِ مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبْراً وَلاَ اِدَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً وَلاَ أَعْدَدْتُ لِبَالِي ثَوْبِي طِمْراً وَلاَ حُزْتُ مِنْ أَرْضِهَا شِبْراً وَلاَ أَخَذْتُ مِنْهُ إِلاَّ كَقُوتِ أَتَانٍ دَبِرَةٍ وَلَهِيَ فِي عَيْنِي أَوْهَى وَأَوْهَنُ مِنْ عَفْصَةٍ مَقِرَةٍ”. (نهج البلاغة).
هكذا كان حاكمنا وقدوتنا وأسوتنا في التاريخ والواقع الإسلامي، وقد تقول: أنك لا تستطيع أن تكون مثله، ويقيناً لن تكون ولكن لا تكن كمعاوية ويزيد، ومروان وهارون الرشيد، وعليك بالورع، والاجتهاد، والعفة، والسَّداد ولا تكن جباراً طاغياً على أمتك وأهلك وشعبك.