{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
جاء رجل إلى النبي، صلى الله عليه وآله، فقال: يا رسول الله أوصني فقال: “احفظ لسانك قال: يا رسول الله أوصني، قال: احفظ لسانك، قال: يا رسول الله أوصني، قال: احفظ لسانك، ويحك وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم”.
اللسان صغير في جحمه، ولكنه أشبه بمحصدة أو بذارة، فهو يحصد الذنوب التي تأخذ الإنسان وترميه في نار جهنم على مناخره، ولكي نعرف هذه الحقيقة، ونتوسع في فهمنا للآية الكريمة لابد من القول: أن العمل ـ حقيقة ـ للقلب، يقول النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله: إنما الأعمال بالنيات”، فالعمل الحقيقي يعمله القلب، فحين تكون النية صافية، يكون العمل خالصا.
فمن ينوِ عمل لا يوفق له، وكانت نيته لعمل صالح، فإن الله ـ تعالى ـ يجازيه الجزاء الأوفى، لذا جاء في الرواية أن هناك بعض العباد الذي يأتي يوم القيامة وله اعمال بسبب نيته الصالحة، فالجوارح إنما هي تعبير وتجسيد عن تلك النيّة.
الكلام حينما يكون سلبيا لا يؤذي الناس وحسب، بل يلوث البيئة التي يجب أن تكون طاهرة، عبر الكلمات الحسنة، يقول الله ـ تعالى ـ: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً}
الكلام حينما يكون سلبيا لا يؤذي الناس وحسب، بل يلوث البيئة التي يجب أن تكون طاهرة، عبر الكلمات الحسنة، يقول الله ـ تعالى ـ: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً}، فالكلمات الحسنى التي يتداولها الناس تصنع من البيئة، كمزرعة فيها الطيب، وفيها الاكسجين النقي، والكثير مما ينعش الجسم، بينما إذا كانت الكلمات سلبية، وسيئة، فإن البيئة تتلوث، وبالتالي ينال المرض من الجميع من خلال الجو الملوّث.
فمن يدفع صدقة لا يتكبر في الأرض، ولا يهدم شعور الآخرين، ويفقد استقلالهم، وإذا كان كذلك، فإن عليه أن لا يدفع صدقة!
هناك منظمات في الأمم المتحدة تدفع أموالا للناس، لكن إخلاصهم ليس بالمستوى المطلوب، ولهذا فهم لا يستطيعون أن يرفعوا الشقاء والتعاسة عن المجتمعات، فلقاح كورونا الذي صُنع مؤخراً في الدول الغربية، لا يمكن للفقراء أن يستفيدوا منه، لأنهم لا يملكون الأموال الكافية لشرائه، وفي مؤتمر الدول الصناعية السبع، تم القرار على انتاج مليار جرعة، وهذه اللقحات لن يسلموها إلا بأيدي دول تحبهم وتواليهم، أما بقية المجتمعات فلن يمكنها الاستفادة منه.
لذا يقول الله ـ تعالى ـ: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ}، فهو كلام يقبله العرف، والعقل، {خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى}، فلكن هذه الصدقة يتبعها كلام بذيء، وتكبر، وايذاء الآخرين.
{وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ}، فالله ـ تعالى ـ غني عن هذه المال، لكنه ـ جل وعلا ـ حكيم لا يأخذ الناس بالعقوبات لعلهم يرجعون ويتوبون.
ثم يؤكد ربنا ـ في سياق هذه الآيات ـ مرة أخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ}، فالصدقة يجب أن تكون لله، مع نسيان عمل المعروف، أما إذا تذكر الإنسان معروفه مع ذلك المحتاج، ومَنَّ عليه فإن ذلك يؤذي الطرف الآخر، ويُبطل صدقته التي تصدق بها عليه.
ـ نحن ـ البشر ـ عادة ـ لا نستطيع أن نؤثر في الماضي، ولا في المستقبل في كثير من الأمور، فالماضي انتهى وذهب، فالشاب الذي كان طائشا أيام شبابه لا يستطيع استرداد تلك الايام، لكنّ الله ـ تعالى ـ يستطيع غفران الذنوب الماضية، وفي نفس الوقت إذا عمل الإنسان خيراً، ثم اتبعه بعمل سوء، فإنه ـ تعالى ـ يُبطل عمل الخير، يقول الله: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورا}. فالعبض يصلي ويصوم لسنين، لكنه في آخر عمره يرتد ـ مثلا ـ فالله لا يقبل منه كل تلك الأعمال.
{بِالْمَنِّ وَالأَذَى}، المن: بأن يسأل المحتاج ـ مثلا ـ: هل شبعت؟ أما الأذى: يكون بالتكبر على الآخرين.
هناك منظمات في الأمم المتحدة تدفع أموالا للناس، لكنّ إخلاصهم ليس بالمستوى المطلوب، ولهذا فهم لا يستطيعون أن يرفعوا الشقاء والتعاسة عن المجتمعات
{كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ}، فمن ينفق ماله رئاء الناس انما يسعى الى أذاهم، بالاستعلاء والتكبر عليهم، {وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر}، فمن كان يؤمن بذلك اليوم لا يقوم بإيذاء الآخرين بأي صورة كانت.
{فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً}، يقوم بعض المزارعين في الصحاري حين لا يستطيعون ازاحة الصخرة الكبيرة، يقومون بوضع التراب عليها، وتصبح مزرعة، وإذا جاء مطر قوي فإنه يزيح ذلك التراب، فالصخرة إذا كان التراب عليها تسمى: صفوان، وبلا تراب: صلدا؛ فالإنسان الذي يعمل الخير، ثم يرسل عليه وابل من الأذى، فإن ذلك العمل يذهب ادراج الرياح.
{لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا}، وذلك هو الذي يعطي الصدقات ويعمل الخير رياء، فإنه لا يحصل على أي أجر، عن النبي صلى الله عليه وآله قال: “يقول الله سبحانه: أنا خير شريك من أشرك معي شريكا في عمله فهو لشريكي دوني، لأني لا أقبل إلا ما أخلص لي”.
{وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}، مشكلة هؤلاء أن منهجيتهم في التفكير خاطئة، لذلك لا يهتدون الى الحق، فهو ـ تعالى ـ: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}، و{وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} و{وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}، فقلوب هؤلاء مكظومة وعليها زيغ.
{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ}، فالمال الذي يدفعه لهدف مقدّس، وهو رضى الله ـ تعالى ـ، وكم هو الفارق بين تلك الأموال التي تُنفق رياء وسمعة، وبين الإنفاق الخالص لله، فهذا المال يكون طاهرا وهنيئا.
قد ترى مسجدا ضخما ومزخرف بأفضل الزخاف، لكن لا أحد يصلي فيه! وتجد مسجدا آخر صغيرا، ومتواضعا، لكنه قائم بصلاة الجماعة، ولعل نيّة من بناهما مختلفة.
ـ وكمثال آخر ـ الطعام الذي نأكله في أيام محرم والأربعين، نستذوقه أفضل من أي طعام آخر، لانه للإمام الحسين، عليه السلام، ولذا فهو يحمل صبغة إيمانية، كذلك المرأة في البيت عندما تطبخ ويكون لديها شعور بالإيمان؛ فتقرأ إحدى الزيارت، أو القرآن الكريم، أو تسبّح الله ـ تعالى ـ فذاك الطبخ يكون لذيذا.
{وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ}، قلب الانسان غير ثابت، فهو يتزلزل ويهتز، يقول الله على لسان نبيه إبراهيم، عليه السلام: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}، ولذا فإن القلب بحاجة الاطمئنان والتثبّت، ولا يكون ذلك إلا بالعمل الصالح الخالص لوجه الله، مع إبعاد كل النيات الدخيلة من القلب، فإن ذلك يكون الطريق الى تثبيت القلب أكثر وأكثر على الإيمان، يقول الله: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ}.
إنّ نعم الله كلما استفاد منها الإنسان ازدادت؛ فكلما بث المرء العلم ازداد علما، وكلما أنفق ماله كثر ونما، كذلك الإخلاص فكلما عمل الإنسان بإخلاص أكثر، ازداد هذا الاخلاص، وتثبت في القلب بصورة أكبر.
- مقتبس من محاضرة للمرجع المدرسي (دام ظلّه).