يُعرف النبي إبراهيم الخليل، عليه السلام، بأنه الأب الروحي للتوحيد، و أول من حمل المعول وحطم الأصنام، داعياً الى عبادة الله، الواحد الأحد.
وكل من يتوجه إلى الديار المقدسة، حاجّاً او معتمراً، وهو يؤدي المناسك العبادية، يتذكر الخطوات التي سار عليها هذا النبي العظيم، ويتلمس آثاره وبصماته الغائرة في عمق الوجدان والضمير الانساني، وكيف أنه بنى البيت العتيق، ثم طاف حوله، وصلّى عنده، وما هي حكمة السعي من الصفا والمروة، وحكمة الأعمال العبادية في مناسك الحج، لاسيما تلك التي في مِنى من؛ حلق وذبح الاضاحي و رمي الجمرات؟
إن إبراهيم، عليه السلام، ليس بعيداً عنّا، فهو ذلك الرجل الذي له الحق علينا بعد النبي محمد، صلى الله عليه وآله، فاذا كنّا اليوم نتجه إلى الكعبة، ونكبّر، ونسعى، فإنما من اجل تحطيم الاوثان، والاصنام في نفوسنا وفي مجتمعاتنا، والفضل في ذلك يعود إلى هذا النبي العظيم، الذي كان اول شخص في تاريخ البشرية يقوم بهذا العمل الجبار.
ومن أهم ما نستذكره من النبي إبرهيم؛ مسيرته نحو التوحيد والايمان، وكيف وصل اليهما في القمة، حتى يمكن أن نجعله قدوة لنا، بما يساعدنا على تحقيق هذا المنجز الكبير.
-
الإيمان منظومة غير قابلة للتجزئة
من أهم اسباب الازمة العقائدية التي تعيشها الامة، ولاسيما شريحة الشباب، النظرة التجزيئية للدين والايمان، فانك عندما تدخل -مثلاً- في قاعة فانك توجه نظرك إلى المقاعد والى سائر الاشياء الموجودة فيها، وبعبارة أخرى إلى جزئيات هذه القاعة، وتترك النظرة الكلية العامة التي تعطيك صورة متكاملة للقاعة، وهذه النظرة هي التي تمنحك القدرة على التفكير والتخطيط في أمر هذه القاعة، فيما اذا اردت إصلاحها او تطويرها، او حتى تقييمها.
ولأن الجزئيات مرتبطة بالنهاية؛ بالاطار الكلي الواحد، فان نظرتنا وتركيزنا على الجزئيات، حتى وإن استمر لفترات بعيدة، وإن تفحصنا ودققنا وأجهدنا انفسنا، لن نصل الى معرفة الحقيقة، وتبقى النتائج لدينا مبهمة وغير متكاملة، بل وجزئية ايضاً.
وهكذا الحال بالنسبة إلى نظرتنا إلى الإيمان، فنحن نعلم أن الانسان المؤمن يقوم بالواجبات الدينية، ويجتنب المحرمات والنواهي ليشكل بمجموعه صفات ايجابية نعرفها عن الانسان المؤمن، ولكن مشكلتنا اننا نتوقف عند هذه الجزئيات؛ فنقول: إن الصدق هو علامة الإيمان، وكذلك الحال بالنسبة إلى الصلاة والصوم.
اننا نعرف كل ذلك لاننا تعودنا على أن ننظر إلى الامور نظرة جزئية، مقتصرة على المفردات والجوانب، والابعاد المختلفة، ولكننا لم نستطع أن نستلهم من مجموع الجزئيات تصورا كلياً عن الحقيقة لاننا لم نفهم حقيقة الإيمان.
إن الإيمان روح، وهو صفة كامنة في القلب، ويتجلّى عبر الصلاة والصيام والزكاة والحج وما إلى ذلك من فرائض دينية، وعلينا أن نعرف هذه الروح، ونعبر من خلال تلك المفردات إلى العمق
فالقرآن الكريم في آيات شتّى يطلب منا أن نفهم حقيقة الإيمان لكي نبحث عنه في انفسنا، فالصلاة -مثلا- ليست هي الإيمان بل هي تعبير عنه، فثمة شيء آخر يجعلك تصلي، وعلى ضوء هذه الحقيقة، فانني إذا صليت، ولكني لم أجاهد في سبيل الله، أو صليت وجاهدت في سبيل الله – تعالى- ولكن لم أطع القيادة التي أمر الله باطاعتها، فاني في هذه الحالة لا أعد مؤمنا، لان الإيمان لا يتجزأ، بل هو شيء واحد، وكتلة واحدة لا يمكن أن تتجزأ.
وربما أصلي لانني متعود على الصلاة، وقد أذهب إلى القتال ولكن بحثاً عن الشهرة، وقد ادعو الناس إلى الصلاح فأسجن واعتقل ولكن ليس انطلاقاً من الإيمان، وإنما بدوافع أخرى، فاذا كنت مؤمنا في الصلاة، والحج، والزكاة، وفي كل جوانب حياتي، فان كل هذه الممارسات انما هي تعبير عن تلك الروح الموجودة في داخل قلبي.
-
كيف كان ابراهيم مَثلاً للإيمان
إذا ما راجعنا الآيات القرآنية المتعلقة بإبراهيم، عليه السلام، نرى أن القرآن الكريم بعد أن يبين لنا عمل إبراهيم وابنه إسماعيل، عليهما السلام، يقرر أن ابراهيم كان من عباده المؤمنين، وكأنه -تعالى- يريد أن يفهمنا من خلال هذه الواقعة حقيقة الإيمان من خلال بيان مَثله وانموذجه.
هذا الانموذج يتمثل في شخص واحد تحدّى مجتمعاً فاسداً بأجمعه، فمن الصعب عليك أن تخالف انساناً واحداً في فكرة، لاسيما اذا كان بينك وبينه احترام متبادل، كأن يكون المربي، أو الكافل لك، وكنت تعيش في بيته، وتأكل على مائدته، وتستفيد من امكاناته، وهذه التجربة الصعبة خاضها ابراهيم، عليه السلام، مع أبيه آزر، الذي كان في الحقيقة عمّه بالنسب، و أباه بالتبني، لانه كان يريد ان يكون إيمانه متكاملاً.
لقد خالف إبراهيم، عليه السلام، المجتمع كله، وبحث عن طريقة لصرفهم عن نفسه، والتحايل عليهم من خلال العمل السري –إن جاز التعبير- كما يروي لنا ذلك القرآن الكريم في قوله، تعالى: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ}، (سورة الصافات، الآية 88-89) وذلك من خلال تظاهره بالمرض، مستفيداً من العقائد التي كانت سائدة آنذاك في الاعتماد على النجوم في التنبؤ بما يحصل، فالمقصود من السقم هنا هو الجهل، فحسب نظرتهم فإن إبراهيم لم يكن سقيما في ذلك الوقت، ولكنه سيصبح كذلك، ولذلك اذعنوا لكلامه.
ومع كل ذلك، خرج إبراهيم في يوم العيد متوكلاً على الله -تعالى-، فيما كان الناس ذاهبين لأداء طقوسهم الخاصة، وأخذ بيده المعول وكسر أصنامهم، ثم استهزأ بهم، بأن وضع المعول في رقبة كبير الاصنام، وكان سؤاله إياهم: بأن اسألوا الصنم الكبير لعله يكون هو الفاعل، او يعرف هو الفاعل! فتحداهم بالحجة الدامغة الممزوجة بالاستهزاء، كما تحدى جبروتهم، وكان يعمل وكأنه مسنود بجيش جبار، في حين انه كان فتىً لم يتجاوز سن الحلم إلا بقليل.
-
حتى نثق بأنفسنا
ترى ما الذي يريد أن يقوله لنا القرآن الكريم من خلال هذه القصة؟
انه يريد أن يمنحنا الثقة بالنفس، وأن نصل الى حقيقة الإيمان الذي يدفع صاحبه إلى التحدّي والنجاح في الحياة، دون أن يخشى في الله لومة لائم، فنحن نجد من حولنا المفاسد، والانحرافات والواجب علينا أن نقف ضدها وضد من يشيعها.
ومن أجل القضاء على الانحراف في مجتمعاتنا فاننا بحاجة إلى انسان مستعد لان يضحي بنفسه في سبيل إيقافه، فقد نجد الآلاف المؤلفة من الناس يغمرهم الانحراف، وهنا تجد نفسك بحاجة إلى أن تقف وحدك لتقاوم هذا الانحراف، وان كلفك ذلك التضحية بمالك أو جاهك، او امتيازاتك، او حتى نفسك، إلا انك بالتالي ستوقف هذا الانحراف، أو تؤخر وتعرقل مسيرة الفساد -على الاقل- والانحراف في المجتمع.
وفي الحقيقة فإن هذه هي روح الإيمان، والله -تعالى- يريد أن يبين لنا أن إبراهيم، عليه السلام، كان من عباده المؤمنين، لانه كان يتمتع بهذه الروح الكبيرة، والثقة العظيمة، وذلك التوكل المطلق على الله -عز وجل-.
ولننظر ايضا إلى الموقف الذي بدر من ابنه اسماعيل، عليه السلام، عندما قال له أبوه: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}، (سورة الصافات، الآية:102) ففي بعض الأحيان يكون المنام وسيلة الوحي للانبياء، عليهم السلام، لانهم معصومون، ولكي يمتحن الله -تعالى- ايمان الابن الشاب، كما امتحن من قبل أباه، عندما قاوم الشرك وهو ما يزال في ريعان الشباب، فما كان من الابن إلا أن قال دون أي تردد: {يَآ أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ}فلم يقل لأبيه، إن مارآه هو مجرد أضغاث أحلام، أو يقل: اني مستعد للموت والذبح شريطة أن تسأل عن تعبير رؤياك، بل وافق على الفور بما عرض عليه أبوه: {يَآ أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}.
وعندما يتجلى هذا الإيمان الحقيقي في الفرد وفي المجتمع، بامكاننا أن نأمل بمواجهة الفساد بشكل حقيقي، كما بامكاننا الاطمئنان على الطاعة للقيادة الرسالية والامتثال لاوامرها، فإسماعيل، عليه السلام، كان يعرف أن اباه نبي، فكان يمتثل لأوامره من هذا المنطلق، لا لانه والده.
إن الإيمان هو التحدي، والتسليم والرضا، ويضرب القرآن الكريم مثلين للإيمان من خلال تحدي إبراهيم، وتسليم إسماعيل، ولا يوجد هناك أي فرق بين هذين الإيمانين.