يقول الإمام زين العابدين، عليه السلام: “ .. وَ لا تَبْتَلِيَنِّي.. وَلا بِالتَّعَرُّضِ لِخِلافِ مَحَبَّتِكَ، وَلا مُجَامَعَةِ مَنْ تَفَرَّقَ عَنْكَ، وَلا مُفَارَقَةِ مَنِ اجْتَمَعَ إِلَيْكَ.“.
ثمة سؤال من الجيد أن يطرحه الانسان على نفسه وهو يقرر مقاطعة صديق له أو قريب؛ ما هو المعيار والضابطة لقرار المقاطعة هذه؟ وعلى أي اساس هو؟
للوهلة الاولى، يتضح من معظم المقاطعات في العلاقات الاجتماعية، منشأها الشخصي، فنلاحظ تحكّم المزاج، والرغبة، والنفس في قطع العلاقات مع هذا او ذاك، لانه أساء، او اتهم، او انه مزعج! او حتى لمجرد الاختلاف في الرأي والانتماء، المهم؛ يستهدف شخص الانسان وليس غيره. بينما في منهج أهل البيت، عليه السلام، نرى أن كل هذا ليس فقط ليس بمعيار، وإنما هو منهيّ عنه.
الامام زين العابدين، عليه السلام، في دعاء استقبال شهر رمضان يدعو الله ـ تعالى- بأن يعطيه جملة من الأمور منها: “وأن نسالم من عادانا لكن حاشى من عودي فيك ولك فانه العدو الذي لا نواليه والحزب الذي لا نصافيه”.
وهذا يدلنا الى المعيار الأساس في المعيار والهجران وهو؛ الله – تعالى-. وهكذا عندما نقرأ في زيارة عاشوراء: “إني سلمٌ لمن سالمكم وحربٌ لمن حاربكم محبٌ لمن أحببتم ومبغضٌ لمن أبغضتم”. فالمعيار ليست المزاجات والرغبات والتوجهات الخاصة.
لدينا في الروايات ما فيه العجب، إحداها؛ أن الله – تعالى- لا يستجيب دعاء صديق قاطع صديقه لمدة اربعين يوماً، وهما اصدقاء وليس بينهما صلة رحم، إنما المقاطعة التي تكون في الله وفي الولاية، لا غير. لذا نجد الامام زين العابدين يدعو ربه بأن لا تجمعنى مع من تفرق عنك، لان الانضمام الى مثل هؤلاء فان النتيجة تكون التعرض لمصير واحد معهم.
-
مؤمن تنتهي حياته مع فرعون!
وفي رواية عن الامام الصادق، عليه السلام، يوصي اصحابه بالحذر من مغبة الاقتراب من أهل المعاصي، لان اذا نزل العذاب بهم فانه سيعمّكم ايضاً.
يذكر الامام، عليه السلام، قصة من نبي الله موسى، عليه السلام، بأن كان شخص من اتباعه، وكان والده مع فرعون، وقد تأخر عن ركب موسى بغية هداية أبيه، وعندما عبر موسى مع قومه من خلال قاع البحر الذي شقّه موسى، جاء جحافل فرعون وكان هذا الشخص معهم، وعندما غرق واطبق عليهم البحر كان هو ايضاً من المغرقين.
وفيما بعد سُئل نبي الله موسى عن هذا الشخص، فقال: انه بخير (في الجنة)، ولكن نهاية حياته مع العذاب الذي نزل على جماعة فرعون.
-
الكبير يعتذر للصغير المُذنب!
الامام زين العابدين، وأئمة أهل البيت، عليهم السلام، طالما يحذرون من مغبة “مفارقة من اجتمع لله”، أي التقارب وتعزيز العلاقات الايمانية وعدم التفريط بها مهما كانت الاسباب والدوافع.
البعض يتصور أن المتصالح والمتسامح في الله لمن يقطعه، او يسبّه، او يُسيئ اليه، مدعاة للضعف والهشاشة في الشخصية في نظر المجتمع، بينما في معيار القيم السماوية أن الأولى ما ينظر اليه الله –تعالى- وليس ما ينظر اليه الناس، في بعض الموارد ربما يتعين على الانسان أن يدفع الغيبة عن نفسه؛ “رحم الله من جبّ الغيبة عن نفسه”، ولكن؛ اذا كان في الأمر رضى الله –تعالى- على ان الانسان ان يقدم ويبادر للصلح والتسامح.
في احدى العوائل حصلت مقاطعة بين رجل كبير في السن، وشاب صغير في السن، وكان المذنب في هذه القضية الشاب الصغير، وصاحب الحق الرجل الكبير في السن، ولم تنفع المبادرات والمحاولات لترميم العلاقات وإزالة القطيعة.
وفي جلسة عائلية، دخل الرجل الكبير وكان في محاسنه الشيب، وسلم على الجميع، فردّ الجميع عليه إلا الشاب الصغير، فما كان من هذا الرجل الشيبة إلا أن قام من مكانه وتوجه الى الشاب الصغير وأخذ بيده وقبلها واعتذر منه، فيما كان الاخير جالساً غير مهتم ومصر على تعنته.
فيما بعد لام الجميع هذا الرجل على ما قام به من تنازل لهذا الشاب وأنه “لا يستحق الاحترام والسماح…”، وغير ذلك، بيد أن ثمرة هذا الموقف لم تكن في تلك اللحظة وإنما في ساعات الليل عندما طرق الباب على الرجل الكبير الشيبة، وكان الشاب الصغير عند الباب وهو يبكي ويعتذر بانه كان المخطئ والمُسيئ.
-
وصفة ثلاثية لتجاوز إساءة المسيئ
- أدعو له. يوصي سماحة المرجع المدرسي بالدعاء في صلاة الليل لمن أكل حقك، وأساء اليك، وليس فقط للصالحين والمؤمنين، حتى ينجيه الله –تعالى- من هذه المعصية التي سقط فيها، هذا الاستغفار هو الذي ينقي القلوب ويبعد الشيطان ورنينه عن النفوس.
- التوضيح ورفع اللبس، فان كثير من العداوات تأتي من سوء الظن وسوء الفهم، و”الناس أعداء ما جهلوا”، فاحياناً البعض يجهل قضية معينة ويتخذ منها موقفاً سلبياً، وعندما تتضح الامور ينتفي الموقف السلبي فوراً.
نحن نتحدث دائماً بالمثل الدارج والجميل: “الغائب عذره معه”، ولكن لا نطبقه في سلوكنا وتعاملنا مع الآخرين، وإلا في كثير من الحالات نجد أن هذه المقولة له مصاديق في الواقع، فكثير من المواقف والاحكام تطلق على شخص غائب وهي غير صحيحة، ما أن يأتي و يوضح كل شيء يتبين بطلان الحكم والموقف.
وذات مرة قال الامام الصادق، عليه السلام، لزرارة بن أعين، وهو من أقرب المقربين: يا زرارة! اذا وصلك كلام منّي عليك فلا تنزعج – مضمون الحديث – لان مثلك عندي مثل صاحب نبي الله موسى؛ العبد الصالح الذي خرق السفينة من اجل ان يحفظها من المصادر من قبل الظالمين. وكذا الكلام الذي ضدك، فان الغاية منه الحفاظ عليك من الطغاة والاعتقال.
- لا تهتم للقيل والقال. فان أغلب المشاكل حجمها صغير جداً ولكن الكلام الذي يدور حولها كبير جداً فيخيل للبعض ان المشكلة كبيرة، ولذا يتركون أصل المشكلة، وهي صغيرة وبسيطة، وينشغلون بالكلام الدائر حولها، و”من أفشى هذه المشكلة”؟! ومن الذي تسبب في هذا الكلام أو ذاك..؟!
وعليه علينا تصفير الخلافات والمقاطعات ووضع حدٍ لها والمضي قدماً نحو توطيد العلاقات وتعزيزها في اوساطنا الاجتماعية.