في ظل حكم الديكتاتورية الفردية والحزبية، عندما يغيب المثقف، ينتشر الظلم والقمع ومصادرة الحريات، وفي ظل الديمقراطيات “المستوردة” في بعض بلادنا، عندما يغيب المثقف ينتعش المُفسدون، وتنتشر رقعة الظاهرة السيئة مساحة أوسع في المجتمع والدولة، ولعل العراق يكون المثل الأقرب الى هذه الحالة.
فعندما نسمع بحالات فساد وتسيّب وهدر للمال العام وانتهاك لحقوق المواطن في مؤسسات عليها الاعتماد مثل؛ الصحة والتربية والقضاء وغيرها، نشهد مع غير قليل من الغرابة، عدم اهتمام أصحاب الشأن بالموضوع، كأن شيئاً لم يحصل، فلا يرف لهم جفن ولا خشية من التبعات او الانعكاسات عليهم مطلقاً.
ان شعور المفسدين بالأمان، حقيقة يتحدث عنها المثقفون والشريحة الواعية، وانهم بعيدوين دائماً عن يد العدالة، و لأنه أمر معيب في اجواء يفترض انها ديمقراطية، يكون فيها رجل الدولة مسؤولاً أمام شعبه عن أي مشكلة تحصل، نجد البعض يلقي باللائمة على شرائح المجتمع وانها السبب في هذا التمادي لسكوتها وعدم تحركها او استخدامها لوسائل ردع او انذار او غير ذلك، في حين تؤكد تجارب الشعوب والأمم أن الشريحة المثقفة هي التي تصنع الوعي وتصيغ ثقافة شعوبها وتؤهلها للتغيير المطلوب من حالة الاستعباد والاستعمار، الى الاستقلال والحرية، ومن حالة الديكتاتورية والفساد، الى المشاركة السياسية والتنمية والتقدم.
لكن لماذا يغيب هذا الدور الحضاري والمفصلي للشريحة المثقفة في بلد مثل العراق؟
المثقف بالاساس؛ لن يكون غائباً عن الساحة نظرياً، فهو موجود بنتاجاته الفكرية وفعالياته الثقافية المختلفة في الساحة ويسجل حضوره اعلامياً وسياسياً، بيد أن الصحيح ايضاً ان تكون هذه النتاجات في نفوس وقلوب الناس لتضيء لهم الوعي العميق بما هم يعيشونه من واقع سيئ وغير صحيح، بينما الملاحظ أن ظاهرة الفساد المالي والاداري المنتشرة في العراق، وفي غير بلد اسلامي، لا تشكل مشكلة حقيقية في حياة الناس، فالناس يخرجون كل يوم لاعمالهم ويعودون بالمقسوم من الرزق، واذا دققنا في طريقة عمل الكثير من الناس ومنهج حياتهم نرى بصمات الفساد في هذا التعامل التجاري او تلك المعاملة الادارية، فاذا كان الفساد لا يشكل خطراً حقيقياً على حياة الناس، ما الذي يدفعهم لمكافحته والقضاء عليه.
ولعل هذا يساعدنا على الاجابة عن السؤال الآنف الذكر، بالاشارة الى حالتين تعيشها الشريحة المثقفة تسببت في غيابها غير المقصود عن ساحة المواجهة مع المُفسدين:
الحالة الاولى: التركيز المُفرط على المصالح الشخصية مقابل المصالح العامة، فربما سمع الناس بالحديث عن حقوق الصحفيين والادباء والعلماء والاكاديميين، من منح مالية، او قطع اراضٍ سكنية، او امتيازات معينة، هذا فضلاً عن استحسان حفلات التكريم والتبجيل لهذا وذاك، علماً؛ ان هذا وغيره من الحقوق ذات جنبة انسانية ليست بكثيرة في حق الشريحة المثقفة، الى جانب تأكيدنا على تأثير التحفيز والتشجيع في ضخ النشاط في ابناء هذه الشريحة للمزيد من العطاء والابداع.
ولكن؛ ان يكون هذا هو الهم الأكبر، فهنا يُثار تساؤل عن حقيقة الدور وغاياته؟ فان كانت الجماهير، وما تحمل من هموم وتطلعات، وأن يكون المثقف ضمير الشعب ولسانه الناطق بشجاعة، فهذا ما يرجوه الناس، وحسنٌ ما فعل احد المثقفين في مدينة عراقية بأن أعطى مقص افتتاح حفل تكريمه الى عامل نظافة في قاعة الحفل، ووقف هو بجانبه يصفق لهذا العامل لانه يعده أحد المعنيين بالنشاط الادبي او الاعلامي.
الحالة الثانية: استمراء السلبيات بشكل غريب يتناقض تماماً مع مهمة المثقف المفترض انه يقدم الحلول والبدائل مما يحمله من افكار، ولمن يطالع مواقع التواصل الاجتماعي وبعض المواقع الخبرية والمعلوماتية، يجد سيولاً من الحديث عن الاوضاع السلبية التي يعيشها العراق، سواءً على صعيد الدولة ومؤسساتها، او على صعيد المجتمع، بدعوى “نشر الحقيقة” او انها “واقع حال”، في حين المعروف لدى الجميع من الناحية النفسية، ان التركيز على ظاهرة او حالة معينة تسبب تكريسه وتثبيته كحالة طبيعية مهما كانت مقززة ومنكرة، وربما يعدها البعض انها من مطالب الناس ومما يرضيهم!
لذا كلما اقترب المثقف من ابناء شعبه ومجتمعه، وعمل على توسيع مساحة الوعي بينهم، كلما ضاق الخناق على المفسدين، وشعروا بالخوف من الادانة والمحاكمة، ومن ثم يمكن التفاؤل بامكانية القضاء على الفساد.
عندما يغيب المثقف ينتعش الفاسدون
في ظل حكم الديكتاتورية الفردية والحزبية، عندما يغيب المثقف، ينتشر الظلم والقمع ومصادرة الحريات، وفي ظل الديمقراطيات “المستوردة” في بعض بلادنا، عندما يغيب المثقف ينتعش …