-
مقدمة علمية
العلم قيمة بحدِّ ذاته، وهو فضيلة من أعظم وأكبر الفضائل والقيم في هذه الحياة، ومن أسماء الله الحسنى (العالِم)، بل العلم من الصفات الذاتية له تعالى، التي لا تنفك عنه أبداً، ولذا ترى البشر يتنافسون في العلم ويتسابقون في حصوله ومراتبه، ويفرُّون من الجهل فرارهم من الأسد الضاري.
والقرآن الحكيم كان أول شيء رسَّخه في آياته وسوره المباركة هو العلم فكانت أول سورة نزلت على رسول الله، صلى الله عليه وآله، في الغار: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (سورة العلق: 1)؛ وثانيها سورة القلم: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}. (القلم: 1).
وكان ذلك في مجتمع جاهلي لا يوجد في الجزيرة كلها أكثر من عدد أصابع اليد ممَّن يقرأ ويكتب فجاء الأمر بالقراءة والكتابة لأن الحضارة والتقدم لا يكون إلا بهما، وبالعلم الذي أمر الله به حتى لرسول العظيم، صلى الله عليه وآله، حيث قال له: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (طه: 114)، وأمرنا به رسول الله في قوله: “اطلبوا العلم ولو في الصين“، و”اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد“، وكثيرة هي الروايات الشريفة التي تأمرنا بالعلم والتعلُّم، وأمير المؤمنين يُقسِّم الناس على العلم بقوله: “النَّاسُ ثَلاَثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاة، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ، أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِق، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيح، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَؤُوا إِلَى رُكْن وَثِيق“.
السيدة فاطمة الزهراء، عليها السلام هي جامعة للعلم والعمل بكرامة وعزة وفضيلة وما علينا إلا أن نقتدي بها في حياتنا لنفوز بشفاعتها يوم الحشر والنشر حيث تلتقط شيعتها في صحراء المحشر
وقال، عليه السلام: “أُغدُ عالماً أو متعلماً ولا تكن الثالث فتعطب“، فهذا الشَّرف العظيم للعلماء الرَّبانيين الذين يُعلِّمون الناس الكتاب، يقول عنهم رسول الله، صلى الله عليه وآله: “النظر إلى وجه العالم عبادة“، هذه الكرامة كان يفتقدها العرب في الجاهلية، فجاء بها الإسلام وراح يُرسِّخها الرسول الكريم، حتى أنه جعل فداء الأسرى من مشركي قريش في أعقاب معركة بدر الكبرى تعليم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة، وهذه سابقة في التاريخ كله.
-
فاطمة الزهراء والعلم
ومن هنا نجد أن الحديث عن فاطمة الزهراء، عليها السلام وعلمها المقرون بالعصمة، ولا ينفك عنها ولذا فهي العالمة بالعلم اللَّدنِّي من عند الله تعالى، قال تعالى عن العبد الصالح (الخضر): {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا}. (الكهف: 65)، وهنا تستغرب أن يُقرَّ الآخرون بذلك العلم للخضر وينفونه بل ويُنكرونه عن آل محمد الذين كان الخضر يأتي إليهم ويخدمهم ويتعلَّم منهم، وفاطمة الزهراء سيدة ذاك البيت الذي وصفه الباري تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ}. (النور: 36).
هذه الدُّرة المخزونة، والجوهرة المكنونة، التي قتلها الجهل والجُّهلاء وهي في ريعان صباها وغضارة عودها، وبداية عطائها الفكري والعلمي، وأسف الزمان وا لهف نفسي عليها من شهيدة عظيمة كريمة عابدة عليمة لم ينقلوا عنها إلا شذرات، ولم يصح عندهم عنها إلا حديثين فقط، ولو لم يصلنا منها إلا كلمات ومواقف ولكن من تلك الكلمات والشذرات نعرف عظيم مكانتها العلمية، لأن اللسان رسول الفكر والقلب في الإنسان وهو يُفرغ عن مضمونهما ومكنونهما، كما قال أمير المؤمنين، عليه السلام في نهج البلاغة: “تكملوا تعرفوا فإن المرء مخبوء تحت طيات لسانه“.
“فالكلمة تُعرِّف حقيقة الإنسان وطبيعة شخصيته، حيث أثبت العلم النفسي الحديث أن معرفة أي حقيقة لأي شخصية يكون عبر توجيه بعض الأسئلة إليه ومن خلال الجواب عليها يظهر طبع شخصيتها وحقيقتها ومدى سعتها واستيعابها، وهل هي شخصية عالية ذا همَّة كبيرة أم لا؟ وغير ذلك من الأمور المهمة، ذلك أن الكلمة التي تخرج من الفم تحمل معها صورة قائلها ونبضات قلبه، وخلجات نفسه ودخائل شخصيته وهذه حقيقة معروفة لدى علماء النفس والتربية والاجتماع”
فالمتتبع لكلمات فاطمة الزهراء، عليها السلام لا سيما خطبتيها الفدكية في المسجد النبوي الشريف حيث مجتمع المهاجرين والأنصار، وجميع أركان السلطة القرشية الحاكمة، حيث تأتي بكل هيبتها وجلالها ووقارها وتجلس، وتخطب بتلك الخطبة التي أعتبرُها معجزة بحدِّ ذاتها فعلاً، فأي جلالة وأي جذالة في تلك الكلمات والجُمل واللفاظ سيدتي، وأي بلاغة وفصاحة وبيان نطقتِ به؟
وما يؤكد ذلك كله كلمتها في نسائهم عندما جِئنَ لزيارتها وعيادتها في مرضها فألقت فيهن كلمة أحارت عقولهن وعقول رجالهن عندما نقلن لهم تلك الكلمات حتى جاؤوها معتذرين، فلم تقبل منهم العذر واحتجت عليهم بما لا مزيد من الحُجج البالغة الدامغة، فمازال الدَّهر والعلماء يتناقلون تلك الخطبتين البليغتين الرائعتين حتى أن صاحب بلاغات النساء ينقلها بدقة وتعظيم لما فيها من البلاغة والفصاحة والبيان الذي يعجز كبار الرجال وفصحاء العرب على الإتيان بها.
-
تعليمها العلم والفقه
يروي الإمام العسكري عليه السلام قال: “حضرت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء فقالت: إن لي والدة ضعيفة وقد لبِس – أي: اشتبه – عليها في أمر صلاتها شيء، وقد بعثتني إليك أسألكِ، فأجابتها فاطمة عن ذلك، فثنَّت (أي: جاءت مرة ثانية أو سألت) فأجابت (الزهراء)، ثم ثلثت إلى أن عشَّرت (أي: جاءت مرة عاشرة أو سألت) فأجابت، ثم خجلت من الكثرة فقالت: لا أشقّ عليكِ يا ابنة رسول الله.
قالت فاطمة: هاتي وسلي عمَّا بدا لكِ، أرأيت من أكتُرِيَ (أي استؤجِر) يوماً يصعد إلى سطح بحمل ثقيل، وكراه (أي أجرته) مائة ألف دينار يثقل عليه؟ فقالت: لا، فقالت: أكتُريتُ أنا لكل مسألة بأكثر من ملء ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤاً، فأحرى أن لا يثقل عليَّ سمعت أبي، يقول: إن علماء شيعتنا يُحشرون، فيُخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم وجِدّهم في إرشاد عباد الله حتى يخلع على الواحد منهم ألف ألف حلّة من نور، ثم ينادي منادي ربنا عز وجل: أيها الكافلون لأيتام محمد، الناعشون لهم عند انقطاعهم عن آبائهم الذين هم أئمتهم..)، ثم قالت فاطمة عليها السلام: “يا أمة الله إن سلكةً من تلك الخِلَع لأفضل مما طلعت عليه الشمس ألف ألف مرة“.
-
حديث النور الشَّافي
هذه واحدة من سيدة النساء، عليها السلام وأما ما أعطته لسلمان المحمدي فهو أعلى وأغلى وأعظم من ذلك بكثير حيث يقول سلمان: أنّ فاطمة ،عليها السلام، علّمتني كلاماً كانت تعلّمته من رسول الله، صلى الله عليه وآله،، وكانت تقوله غدوة وعشيّة، وقالت: “إنْ سرّك ألا يمسّك أذى الحُمّى ما عشت في دار الدّنيا فواظب عليه، وهُوَ: بِسْمِ اللهِ النُّورِ، بِسْمِ اللهِ نُورِ النُّورِ، بِسْمِ اللهِ نُورٌ عَلى نُور، بِسْمِ اللهِ الَّذي هُوَ مُدَبِّرُ الأُمُورِ، بِسْمِ اللهِ الَّذي خَلَقَ النُّورَ مِنْ النُّورِ، الْحَمْدُ للهِ الَّذي خَلَقَ النُّورَ مِنَ النُّورِ، وَاَنْزَلَ النُّورَ عَلى الطُّورِ، فِي كِتاب مَسْطُور، رِقٍّ مَنْشُور، بِقَدَر مَقْدُور، عَلى نَبِيٍّ مَحْبُور، الْحَمْدُ للهِ الَّذي هُوَ بِالْعِزِّ مَذْكُورٌ، وَبِالْفَخْرِ مَشْهُورٌ، وَعَلَى السَّرّاءِ وَالضَّرّاءِ مَشْكُورٌ، وَصَلَىّ اللهُ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ الطّاهِرينَ.
ثم قال سلمان: فتعلمتهنّ وعلّمتهنّ أكثر من ألف نفس من أهل المدينة ومكّة ممّن بهم الحمّى، فبرئوا من مَرضهم بإذن الله تعالى”.
حقيقة هذا السر العجيب إلى الآن لم يكتشفه العلماء والأطباء فما ربط هذا الدعاء المجرَّب على أكثر من ألف من قبل سلمان فقط، بخفض الحرارة في الجسم والتي تعني أن هناك آفة ومرض وإنتان وهو ما يُعبَّر عنه بالخلل العضوي، ولكن الطب الحديث بالأشعة المختلفة ربما يتوصل العلم إلى سرِّ هذا الدعاء الشريف في يوم من الأيام وسيكون فتحاً طبياً حقيقياً.
من أجل أن تدفع المرأة عن نفسها التردِّي والابتذال الرَّخيص اللذين ابتُليت بهما في العصر الراهن، فإنها لا بُدَّ لها أن تُدافع عن نفسها، وتستنكر التيارات الجاهلية التي تستهدف النيل من عفّتها وكرامتها، وذلك من خلال الاقتداء بالزهراء، عليها السلام
-
فاطمة جامعة علم وفضيلة
حقيقة المتأمل فيما ورد عن فاطمة الزهراء، عليها السلام على قلته إلا أنه يُبيِّن أنها كانت جامعة علوم وليس مدرسة فقط، بل هي جامعة كونية وليس عالمية لأنها عندما تتحدث عن الله تعالى كما في حديث الكساء الشريف، وفي أدعيتها وكل ما روي عنها في أذكارها لا سيما تسبيحها وبركته وعظمته، وما نُقل عن عبادتها وتهجدها يجعلنا نقف خاشعين على بابها الشريف، وقوف الخائف المستجير بها وليس كوقوف أولئك الأجلاف من قريش وزبانيتهم كخالد وقنفذ وعمرو والمغيرة.
فما أحرانا أن ندرس في تلك الجامعة المانعة القاطعة التي تجمعنا على الفضيلة، وتمنعنا عن الفساد والرذيلة، وتقطعنا عن الظالمين الذين يُريدون أن يستغلونا بكل وسيلة، وجميل ما تفضل به سماحة المرجع آية الله العظمى السيد المدرسي (حفظه الله) بقوله: “من أجل أن تدفع المرأة عن نفسها التردِّي والابتذال الرَّخيص اللذين ابتُليت بهما في العصر الراهن، فإنها لا بُدَّ لها أن تُدافع عن نفسها، وتستنكر التيارات الجاهلية التي تستهدف النيل من عفّتها وكرامتها، وذلك من خلال الاقتداء بالزهراء، عليها السلام، المرشدة والمعلمة الأولى لكل نساء العالم وعلى امتداد التأريخ.. فقد علّمت هذه المرأة العظيمة النساء درس العفاف، وصيانة الشَّرف والكرامة، وحذّرتهن من الوقوع في شَرك الشهوات الرَّخيصة، وسدَّت عليهن عبر سيرتها المباركة أبسط منفذ من الممكن أن يؤدي بهنّ إلى الانحطاط والابتذال.. فدعت المرأة إلى أن تحفظ كرامتها وعزّتها، وتصون استقلالها وشخصيتها، وألا ترتضى لنفسها أن تكون دُمية وأداة بيد طلّاب الشهوات، وحذّرتها من التبرج والتهتك المؤديين إلى الانحلال والفساد والانحطاط الأخلاقي”. (فاطمة الزهراء قدوة الصديقين: ص15)
فالسيدة فاطمة الزهراء، عليها السلام هي جامعة للعلم والعمل بكرامة وعزة وفضيلة وما علينا إلا أن نقتدي بها في حياتنا لنفوز بشفاعتها يوم الحشر والنشر حيث تلتقط شيعتها في صحراء المحشر.