حدیث الناس

ماذا نجني من نشر الجرائم الاجتماعية؟!

{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}، (سورة النور، الآية19).

عندما ترتكب مخالفة أخلاقية، او جريمة اغتصاب او قتل او سرقة، فإن ابواب الاحاديث تفتح على مصراعيها للبحث في الخلفيات، والاسباب، والدوافع، ولماذا فعل ذلك الشاب هذا العمل؟ ولماذا ارتكبت تلك المرأة ذاك العمل؟ وهكذا، وهذا يكون بفضل وسائل الاعلام التي هي بمنزلة “البواب” لهذه الاحاديث لنشرها نشرها وتداولها بين الناس.

ولابد من الاشارة هنا الى حقيقة نفسية تشير الى رغبة جمهور الاعلام في سماع الاخبار السلبية بشكل عام، لاسيما التي تكشف عن المستور وما يسميه الاعلام بـ “الفضائح”، السياسية منها والاقتصادية، والاجتماعية، فأفراد المجتمع يعيشون يومياً حياتهم الطبيعية كما أوجدها لهم الله ـ تعالى-، يتصرفون وفق الفطرة السليمة، وينطلقون من قاعدة الاخلاق والآداب والقيم الانسانية، لذا يكون الحديث المغاير لهذا المسار مثيراً وجاذباً للسماع والانتباه، واحياناً محبباً لدى البعض للنشر، ويبدو أن منظري الاعلام في العالم، ولاسيما في العالم الغربي قد فطنوا الى هذه الحقيقة فراحوا يركزون على هذه الثغرة بحثاً عن الانتشار الأوسع، والمبيعات والارباح في أيام النشر الورقي (المجلات والصحف)، وفي وقت لاحق؛ حيازة أكبر مساحة من المشاهدين للقنوات الفضائية في مرحلة لاحقة.

 

لننظر الى الشريعة الاسلامية وكيف تتعامل مع هذه القضية، فهناك ضوابط مشددة على تأكيد وقوع جريمة الزنا، ولابد من وجود شهود أربعة يؤكدون رؤيتهم للعملية، وهو ما يعده عامة الناس أمراً صعب التحقق، الامر الذي يبعد الناس عن محيط الجريمة لئلا يتلوثون نفسياً

 

أما اليوم، فنحن أمام إعلام جاهيري (سوشيال ميديا) فالجميع ينشر للجميع، ويروج لأخبار القتل والاغتصاب والتحرش الجنسي والسرقة، فضلاً عن الاخبار المماثلة من أروقة السياسيين، ومن رجال الأعمال والمال، ولطالما نبّهت الاصدقاء في أحاديث جانبية طيلة السنوات الماضية من خطورة تبني القاعدة الاعلامية المصنوعة غربياً والقائلة بأن الخبر المثير هو رجلاً عضّ كلباً وليس كلباً عضّ رجلاً”!

لنفترض أن العمل المشين الذي ارتكبته تلك المرأة في بغداد بإلقاء طفليها من أعلى الجسر الى مياه النهر مما تسبب بموتهما، لم ينتشر في وسائل الاعلام، ولم يتحول الى خبر مثل سائر الاخبار اليومية، ما الذي كان سيخسره الجمهور المتلقي؟

هل كان ستخفى عليه طريقة عمل البلدية في إنفاق الاموال المخصصة لتعبيد الشوارع، وتخصيص أماكن مناسبة لباعة الخضار والفاكهة والالبان المنتشرين على الارصفة والشوارع؟ وهل سيتخلف عن ركب الوعي السياسي والاقتصادي، وكيفية المشاركة الحقيقية بصنع القرار، أو المشاركة في عملية التنمية والاكتفاء الذاتي وتوفير العملة الصعبة والتقليل من الاستهلاك؟

 

الاعلام هنا يقف أمام مسؤولية عظيمة في بلد مثل العراق يملك كل شيء، ويفتقد لكل شيء في وقت واحد، فهو يفكر بما يحقق له النجاح المهني المتمثل بالنشر الأوسع، والسمعة العالية بين الناس بأن هذه الوكالة الخبرية، او ذلك الموقع هو الأقرب الى التفاصيل (الفضائح) وما يسميها احياناً بـ “الحقائق”، مع العلم أن التجارب تؤكد لنا دائماً أن الجرائم التي تقع في المجتمع، ولاسيما المتعلقة بموضوع الجنس، لن تخرج بكامل تفاصيلها الى العلن مطلقاً، مهما بذلت الشرطة، وسعى المخبر الصحفي للإحاطة بتفاصيل الموضوع، لأن ببساطة؛ القضية تتعلق بالنفس الانسانية النازعة دائماً لنكران الذنب، والمكابرة و “العزّة بالإثم”، وإن توصلت الشرطة والصحافة الى بعض الحقائق والتفاصيل، فانها تجد صعوبة كبيرة في نشر ما لديها على الملأ لاسباب ربما تكون واضحة.

 

لنفترض أن العمل المشين الذي ارتكبته تلك المرأة في بغداد بإلقاء طفليها من أعلى الجسر الى مياه النهر مما تسبب بموتهما، لم ينتشر في وسائل الاعلام، ولم يتحول الى خبر مثل سائر الاخبار اليومية، ما الذي كان سيخسره الجمهور المتلقي

 

وعند هذه النقطة نعيد التساؤل: ما الذي يجنيه الناس من تداول أخبار الاغتصاب والخيانات الزوجية والقتل والسرقة وأمثالها، وهي اخبار غير متكاملة الاجزاء وضبابية تخلو من العبرة والدرس لعدم تكرارها؟

لننظر الى الشريعة الاسلامية وكيف تتعامل مع هذه القضية، فهناك ضوابط مشددة على تأكيد وقوع جريمة الزنا، ولابد من وجود شهود أربعة يؤكدون رؤيتهم للعملية، وهو ما يعده عامة الناس أمراً صعب التحقق، الامر الذي يبعد الناس عن محيط الجريمة لئلا يتلوثون نفسياً، بينما عندما يكون الأمر في تطبيق الحدود على شارب الخمر، او الزاني، نجد الدعوة للناس بأن يحضروا ويشاهدوا عملية تطبيق حدّ الجلد للزاني او الزانية؛ {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ}، (سورة النور، الآية2).

 

فاذا كان لدينا ثقافة من هذا النوع فبها ونعمت، وإلا فان نشر اخبار الجرائم الاجتماعية وجعلها حديث الناس في الشارع، وحتى حديث العائلة على مائدة الطعام، فانها لن تنتج سوى حالة من “الاستمراء” والتطبّع على الجريمة وارتكاب المحرّم والمنافي للآداب والاخلاق، والعاملين في الاعلام يفهمون هذا جيداً، فعندما ينشر الاعلام غسيل الساسة اللصوص والفاسدين، فهم يثقفون بعدم الثقة بكل سياسي مخادع يسرق ثقة الناس عند صناديق الاقتراع، ومن ثمّ يكونوا على وعي وانتباه من أشباه “المسؤولين”، وينتخبوا من يعرفون فيه الاخلاص والامانة والصدق والنزاهة.

ولكن ماذا عن جريمة مثل جريمة المرأة التي ألقت بطفليها في الماء، او تلك التي ألقت طفليها ايضاً في خزان ماء ليموتا غرقاً، أو هروب فتاة من البيت والالتحاق بصديقها الذي أحبته عبر الانترنت، او خيانة زوجية وأمثال ذلك كثير؟

نعم؛ نشر أخبار كهذه بين العلماء والحكماء وأصحاب الاختصاص من علماء الدين والاجتماع والتربية هي التي تفضي الى انتاج علاجات ناجعة للحالات النفسية التي تدفع باصحابها لارتكاب تلك الجرائم، بل وصياغة حلول جذرية تحول دون وقوع هذه الجرائم، بنشر ثقافة الورع، والتقوى، والحب، والحنان بين افراد الأسرة، ثم الأقارب وجميع افراد المجتمع.

عن المؤلف

محمد علي جواد تقي

اترك تعليقا