شكلّت محلمة كربلاء عطاءا انسانياً في مختلف الابعاد والمجالات، وكانت رافداً ومعينا يستلهم منه الشعراء والادباء انواعا كثيرة من الشعر والسجع والبلاغة، ولم يكن المسلمون وحدهم قد سلكوا هذا السبيل، فهناك من المسيحيين من أبدع شعراً كبولس سلامة الذي ألّف كتابا اسماه (ملحمة الغدير)، احتوى على قصائد أدبية متنوعة في حق أهل البيت عليهم السلام، ومنهم ـ أي المسيحيين- الكاتب والأديب سليماني كتاني، مؤلِّف الموسوعة الادبية المشهورة في حق النبي الاكرم، وأهل بيته، صلوت الله عليهم والتي تتألف من تسعة أجراء، فلم يسمح الموت للكاتب بأن يكمل موسوعته.
ونحن إذ نعيش ايام الثورة العاشورائية، نقتطف شذرات أدبية، من كتاب (الإمام الحسين في حلّة البروفير)، تحكي هذه العبارات نشأة الإمام الحسين، عليه السلام، مرورا بالأدوار المختلفة في حياته، الى يوم شهادته، وستكون هذه المقتطفات على شكل سلسلة يتم نشرها تباعا.
كتاني والحسين عليه السلام
ولكم تمنيت على التاريخ أن لا يقرأ علينا الكلمة بحروفها بل بمعناها النازل فيها، ألا تراه هكذا قد تصرّف وهو يكتب على إحدى صفحاته (أهل البيت) وهو يفسّر الكلمتين بحروفهما لا بمعناهما المقصود؟ والبيت هنا وأهله لا يعنيان في كلمتيهما أساساً مضروباً لإقامة أربعة حيطان تنشأ ضمنها وحدة سكنية تنزل فيها عائلة مؤلفة من رجل وامرأة وعدَّة بنين ـ إنما البيت وأهلُهُ هما رمزان ـ بالذات ـ الى مجتمع ظهر منه مشتاق رائد تمكّن من رصفه ورزمه في إطار جديد، ومضى به إلى تحقيقات رائعة المثال، وخارقة المجال، نشلته من كينونة إلى كينونة، فإذا الفرق بعيدٌ بين إنسان، كان يتشرّد هنا وهناك فوق الرمال كأنه مثل هاتيك الغزلان لا يقودها العطش إلّا الى واحات من سراب، وإنسان دَلَّه عقله كبير إلى قضية كبيرة في الحياة ، وجد بها منهله لحقيقته الإنسانية التي يبني بها مجتمعاً صحيحا يحقق به أنشودته في الوجود.
ألم يكن العظيم محمد، صلى الله عليه وآله، هو الذي انفجر به شوق الجزيرة العربية إلى سحبها من كل حرَّاتها الراقصة بالزفت والكبريت، إلى واحات من نوع جديد يسرح فيها نسم، وينبت فيها ظل، ويجمعها رشد يخلصها من تشريد وتخريب، ويوفر لها نظاماً ينشلها من غزو، وقتل، وهدر قوى يمتصها الجهل وفقر الروح، وتبعثرها – تويهيناً وتفتيتاً- روح قبلية عشائرية، متزمتة في تجمهرها وتصنيفها المرصوص في الأفخاذ والبطون.
مَن غير محمد، صلى الله عليه وآله ـ بعد هذه الآلآف من السنين المهدورة ـ تمكَّن من إشعال هذه الحرّات أتوناً مؤججاً بنار زفتها وكبريتها، رمى إليه كل هذه الأصنام التي كانت تكبّل هذا الإنسان عن بلوغ حقيقته العظمى في الحياة؟ لقد كان هذا الإنسان بلا كتاب، فهجّا له ـ لحظة بعد لحظة ـ كل حروف الكتاب، كان فرداً يتقن القفز بين المفارز وخلف الطرائد فضغطه إنساناً يعرف كيف يمشي على الطريق، وكانت قبيلة تلعب بها البطون والأفخاذ، فجاهدها حتى جعلها في الوحدة المجتمعة المؤمنة بالحقيقة، لقد كان هذا الإنسان بلا قضيّة فدمجه بالقضية، وأفهمه أنّ الأمة الواحدة لا يعلو لها إلا صرح واحد مؤمن، متين الأساس، وعزيز الحجر، وكريم السقف ـ إنه بيت الأمة الواعية، يوحّده الشوق، ويجمعها العقل إلى تعزيز المصير المشترك.
هل كان أحد غير هذا الفتى الرائي، في حقيقة العزم والإقدام لخوض غمار معركة كان يبدو أنها خارقة الجنون، وإذا بها ـ بعد اختلاء في غارـ تحقق ذاتها، وتحققت المعجزة التي لم يحققهاـ مجتمعين ـ كل الابطال الذين ألّفوا ملحمة هوميروس؟ إنها لعمري أضخم معركة حصلت على وجه الارض، كان بطلها إنسان حقيقي، ولم يتجاوز الوقت الذي أحرزت فيه النصر عشر سنين- وإذا بمجتمع، برمَّته، يلتم الى وحدة فوق ساحة كانت تلتهمها المسافات الفارغة، وتَفْرِطُهَا العادات والتقاليد، وأبالسة الشياطين، وألوف من القبائل المشرَّدة، والعشائر الضائعة في الليل، وكل شيخ من شيوخهن كأنه صنم بلا عين، ولا قلب، والا لسان.
أجل ـ إنها معركة التهبت بالحق، واشتعل بها الوجدان المجنّج بالخيال، على صوت صهوات بيض راحت تحرر الارض من عبوديتها المعفرة بالسراب وبالغبار، وترفعها الى فضاء يمرح فيه شعاع سني النور، مربوط الضلعين بالإسراء والمعراج، فإذا السماوات السبع، وكلها موسوعة الممرات الى جنان تشرب الكوثر من راحتي الوعد السخي الذي سيتمتع به الإنسان الذي يسمو بالحق، والصدق والمعرفة، وهو يتحلَّى بالمثل الكريمة النابعة من إيمانه بإله واحد أمثل، يخلّصه من كل عبودية، وينظفه من الرغبات السود، ويزيّنه بالصدق، والطهر، والعفاف، ويحضره لأن يكون إنسانا صادقا في دنياه، لكيون ثوابه جنة من ذلك الطراز، وهي ـ أبداً- جنة سيجدها مزروعة في نفسه المحررة من الكذب، والغش، والبهتان.
ما شحَّت في هذه الملحمة الرائعة بطولات لحمت الأرض بالحيتان، وما ضَوُلَ الثواب على المدعوين الى معانقة الحقيقة الباهرة، وكان الثواب تحقيقاً آنياً مترجماً على الأرض، هكذا كانت الترجمة العظيمة متجلية في الكلمة الواحدة التي هي (الرسالة)، وكان التحقيق البليغ ملموحاً في توحيد المجتمع بإنسان رمى فرديته المنهوكة بقبائليته وعشائريته، وفتائل زعاماته، وثعابين اصنامه، وراح يتمتع بمجتمعيته التي هي الآن في حقيقة الوعد الكبير الذي زرع القيمة في الانسان، فإذا الحياة الكريمة هي الجنة التي لمحتها عين الاسراء والمعراج.
البيت النبوي نواه المجتمع الأمثل
هذا هو المجتمع الأمثل ـ لقد حققته الرسالة إذ بنته بيتاً كريماً تنزل فيه لتخلد معه في القيمة المستمرة في وجود الانسان ـ ستدافع عنه إذ تدافع ـ أبداً- عن حقيقتها في ذاتهتا- ومن هنا كان البيت بيت الرسالة، أمّا أهلُهُ المخصصون فهم المنتقون عنصراً متيناً للصيانة والتعهد، حتى تبقى الرسالة فاعلة فعلها المتصاعد من أجل أن يعم الرشد، ويمتن هذا الإنسان بالممارسة التي تنسبه موطىء قدميه في أمسه الهزيل، وتنجيه من الردَّة في يومه الطالع.
هكذا بنيت الملحمة من أجل تثبيت بطولاتها فوق الارض ـ أما البيت الهاجع في معناه، فهو البيت الذي بنته الرسالة، وهو المجتمع المبني بها- أما الذي ينزل فيه الآن فهو الرجل الآخر، لا لأنه عصب توشجت به عروق الدم والقربى بل لأن الرسالة التي بها قد توشج، فانشق منها بين يدي البطل الكبير الذي نسج لها ملحمة لفها بها في المعركة التي دمجت الأرض بجنان النعيم، وطهرت إنسانها تطهيراً.
لقد كان التاريخ في تفسيره أهل البيت عليهم السلام، أشبه ببطن من بطون القبائل في تلك الايام، تجمعها روابط النسب والللحم والدم، في حين أن النبي العظيم، صلى الله عليه وآله، برى الروابط وجعلها مهدورة في المجتمع الواحد، وجعل البيت رمزاً للبيت الكبير الجديد الموحد.
إنّ أهل البيت عليهم السلام هم الوصية المقصودة لتناول الإرث الذي هو رسالة ملفوفة بملحمة حقيقية ما شهدت الأرض نظيرها من الملاحم ـ أما الحسن والحسين عليهما السلام فمنهما الحلم الذي انبثق من الوجدان الممسوح الشوف والخيال ـ إنهما من صلب هذا الوتجتدان وهو مرشوق بعظمة الرسالة، سيكونان مخطوفين من بهجة اللمح، لقد نشأ أبوهما وهو يأكل من ذات الخمير ويتربع على ذات الحصير ـ وهكذا نشأت أمهما تمتص رهافتها من ثدي تلك التي ذابت بين يدي زوجها كما تذوب شمعة مقدّسة أمام نافذة المحراب، وها هما طفلان يلعبان في باحة المسجد، ولكنهما ما كانا يشربان إلّا كوثراً صرفاً سيكون به تحقيق الميراث، وتحقيق الوصية، وتحقيق الإمامة، وتحقيق الوعد الذي تعيش به رسالة ما انفكَّت ملمحة يلتحم بها إسلام الأرض بين يدي ثدي ربها الرحمن الرحيم.