-
الشجرة الطيبة
الله سبحانه ضرب لنا مثلاً في كتابه الكريم بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}. (إبراهيم: 25).
كما أنه ، فنمت وبسقت في فرعيها، الإسماعيلي العربي، والإسحاقي اليعقوبي، ومنه كان موسى الكليم، وعيسى المسيح.
وأما الشجرة العربية المباركة فهي التي وصفها الإمام علي عليه السلام بقوله: “حَتَّى أَفْضَتْ كَرَامَةُ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِلَى مُحَمَّدٍ فَأَخْرَجَهُ مِنْ أَفْضَلِ اَلْمَعَادِنِ مَنْبِتاً، وَأَعَزِّ اَلْأَرُومَاتِ مَغْرِساً مِنَ اَلشَّجَرَةِ اَلَّتِي صَدَعَ مِنْهَا أَنْبِيَاءَهُ، وَاِنْتَجَبَ مِنْهَا أُمَنَاءَهُ؛ عِتْرَتُهُ خَيْرُ اَلْعِتَرِ، وَأُسْرَتُهُ خَيْرُ اَلْأُسَرِ، وَشَجَرَتُهُ خَيْرُ اَلشَّجَرِ، نَبَتَتْ فِي حَرَمٍ، وَبَسَقَتْ فِي كَرَمٍ، لَهَا فُرُوعٌ طِوَالٌ، وَثَمَرٌ لاَ يُنَالُ“. (نهج البلاغة: خ93).
تلك هي الشجرة المباركة الطيبة التي ضربها الله مثلاً في كتابه وليس النخلة، أو الزيتونة، أو أي شجرة من أشجار الدنيا، وما قيمة الدنيا وما فيها لولا محمد وآل محمد صلى الله عليه وآله؟
من تلك الدوحة المعطاءة، والشجرة النامية كان ذاك الأصل النامي والإمام السامي موسى بن جعفر الكاظم، عليه السلام الذي حباه الله بخصائص وميزات لم تكن لغيره من آبائه وأبنائه لأنه ابتلي ببلاءات لم يُبتلى بها أحدٌ منهم، لا سيما السجن الطويل، والتنقل بين السجون والمطامير حتى قضى شهيداً في سجن السندي بن شاهك مسموماً بأمر هارون اللا رشيد، ونودي عليه على جسر الرصافة في بغداد.
[ .. إذا عمّت البلدان الفتن فعليكم بقم وحواليها ونواحيها فانّ البلاء مدفوع عنها ..]
و من ميزات الإمام موسى الكاظم عليه السلام؛ أنه كان أكثر الأئمة ولداً وأغزرهم نسلاً، فتنقل كتب التاريخ والسيرة أن للإمام أكثر من ستة وثلاثين ولداً، ولذا ترى أن أكثر السادة الكرام من الموسوية.
ومن ذاك الأصل الأصيل تفرَّع فرع نقي كنسمة الصباح، وطاهر بل أطهر من ماء السماء، ولدت في غُرَّة ذي القعدة، فسماها الإمام باسم جدته فاطمة الزهراء عليها السلام والتي عُرفت في التاريخ بفاطمة المعصومة، لعظمتها ونقائها وطهارتها، وغزارة علمها، وشهادة الأئمة فيها.
تلك المباركة الطيبة التي تعلَّقت بأخيها وسيدها وإمامها الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام تعلقاً شديداً حتى أنها ذكَّرت أهل البيت، بعلاقة السيدة زينب بأخيها الإمام الحسين عليه السلام، والتي كانت لا تستطيع أن يمر عليها يوماً واحداً إلا وتراه، وهو كان يُبادلها نفس الحب والشوق، ولذا عندما استقدم المأمون العباسي أخاها الإمام الرضا، عليه السلام من المدينة المنورة إلى مرو ثم خراسان لم تستطع العيش بعيداً عنه فعزمت الرحيل وراحت تقطع المسافات والفيافي والقفار يحدوها الأمل ويسوقها الشوق إلى أخيها الإمام الرضا، إلا أن القضاء الإلهي قال كلمته فيها، حيث مرضت في طريقها ولما شعرت بدنو أجلها سألت عن مدينة يقال لها: قم.
[ .. عن الإمام الصادق عليه السلام: “تربة قم مقدّسة وأهلها منّا ونحن منهم، لا يريدهم جبّار بسوء إلاّ عجّلت عقوبته ما لم يخونوا إخوانهم، فإذا فعلوا ذلك سلّط الله عليهم جبابرة سوء، أما إنّهم أنصار قائمنا ودعاة حقّنا ..]
فكانت قريبة منها، فخرج أهل قم لا سيما أشاعرتها لاستقبالها وفي مقدمتهم زعيمهم الذي قاد ناقتها حتى أنزلها في منزله، (بيت النور)، على أن وافتها المنيَّة في قم فتقدَّست فيها، وتبرَّكت بمقدمها إليها، وتشرَّفت بجثمانها الطاهر، ومرقدها العامر الذي صار موئلاً للشيعة والمحبين، ومركزاً للحوزة العلمية وقبلة للعلماء والمتعلمين.
-
قم المقدسة في التاريخ
قالوا: “إنّ مدينة قم؛ هي إحدى المدن الكائنة بمحاذاة صحراء ملحية قاحلة، وتبعد هذه المدينة – الواقعة غرب بحيرة ملحية (بحر الملح) – مسافة ما يقرب من مائة وخمسين كيلومتراً عن طهران العاصمة الإيرانية، كما أنّها تقع على هضبة ترتفع بمقدار تسع مائة متراً عن سطح البحر.
وتعتبر مدينة قم ملتقى لعدد كبير من المدن الإيرانية، ورابط بين أطرافها المترامية، لذلك فهي تحظى بأهميّة كبيرة من ناحية الإتّصالات، وهي نفس الأهميّة التي كانت تتمتّع بها سابقاً، حيث كانت ميداناً لعبور الجيوش أبّان الحروب، وكذا لمرور القوافل أيام السِّلم والهدوء.
وكانت مدينة قم تعدّ في العصور القديمة من مدن الأجزاء الشرقية لولاية الجبل، أو عراق العجم، لأنّه في القديم، كان يُطلق على هذه النواحي الجبلية الواسعة التي تحدّ غرباً بمنطقة بين النهرين، وشرقاً بصحراء إيران الشاسعة، والتي كانت تضمّ عدّة مدن ولاية الجبل، أو عراق العجم.
ولكن هذه المدينة التاريخية الصغيرة دخلت التاريخ الإسلامي مبكراً، ثم دخلت التاريخ الشيعي بنزول الأشعريين اليمانيين الهاربين من السلطة الأموية إليها، حيث شرَّد معاوية أسباع وأرباع الكوفة، وهجَّر منهم خمسين ألف إلى خراسان، ولكن هؤلاء الكرام عندما وصلوا قريباً من قم التي كانت تتعرَّض لهجمات وغزوات من الديلم، خرج أهلها ودعوهم للسكنى في أرضهم ليتسلحوا بهم فنزلوا في أطرافها وهكذا راحت تنو بدخول الأقوام المحيطة بها في الإسلام.
ولكن وصلتها القداسة، وصارت (قم المقدَّسة) بتبركها بشخص السيدة فاطمة بنت الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ثم بمرقدها العامر بكل أنوار الهداية والولاية، فصارت قم من بقاع أهل البيت ولذا ترى أئمة المسلمين أولوها الكثير من العناية والرعاية في أحاديثهم المنقولة، ورواياتهم الشَّريفة التي تتحدَّث عن هذه البقعة الطيبة، والمدينة المباركة، فعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: “قرية قم مقدّسة وأهلها منّا ونحن منهم”. (بحار (الأنوار: ج57 ص214).
- قم عند الأئمّة المعصومين عليهم السلام
التاريخ يشهد كم عانى العلويون وذرية الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وشيعتهم ومحبيهم، من ظلم وجور الحكّام، وخاصّة من حكام بني أُميّة وطغاتهم، وولاتهم، ومن ثم من سلطات وطغاة بني العبّاس وعمّالهم، وكم تعرّضوا لقتلهم، ونقمتهم، ومطاردتهم، ونفيهم، وتشريدهم، وملاحقتهم، تحت كل حجر ومدر.
وجميل ما يقوله السيد محمد الشيرازي (قدس سره) في هذا المجال: “هذا ما جعل من قم مدينة ذات منزلة رفيعة عند المعصومين عليهم السلام، وقد ورد مدحها والإشارة إلى فضلها في كلماتهم عليهم السلام، ناهيك عن احترامهم الكبير لهذه المدينة حتّى قبل ظهورها واشتهارها، ولعلّ مردّ ذلك يعزو إلى علمهم الإلهي – الذي وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله بالوحي، وإلى أهل بيته، عليهم السلام بإخباره لهم – بأنّها سوف تكون ملجأً وملاذاً للعلويين والشيعة، وقد وردت أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام في فضل قم، نذكر بعضاً منها:
فعن رسول الله صلى الله عليه وآله انّه قال: “لأنّ أهل قم شيعتي وشيعة وصيّي علي بن أبي طالب”. (بحار الأنوار: ج57 ص218).
وعن أبي عبد الله الإمام الصادق عليه السلام، يزفُّ لأهلها بُشرى في هذه الأيام التي تجتاح فيه الكورونا العالم أجمع، بقوله: “إذا عمّت البلدان الفتن فعليكم بقم وحواليها ونواحيها فانّ البلاء مدفوع عنها”. (بحار الأنوار: ج57 ص214 و217).
وقال عليه السلام أيضاً: “إن لله حرماً وهو مكة، وإن للرسول حرماً وهو المدينة، وإن لأمير المؤمنين حرماً وهو الكوفة، وإن لنا حرماً وهو بلدة قم، ألا وإن قم الكوفة الصغيرة، ألا إن للجنة ثمانية أبواب، ثلاثة منها إلى قم، تقبض فيها امرأة من ولدي اسمها فاطمة بنت موسى، وتدخل بشفاعتها شيعتي الجنة بأجمعهم”.(مستدرك الوسائل: ج10 ص206).
وعن الإمام الصادق عليه السلام: “تربة قم مقدّسة وأهلها منّا ونحن منهم، لا يريدهم جبّار بسوء إلاّ عجّلت عقوبته ما لم يخونوا إخوانهم، فإذا فعلوا ذلك سلّط الله عليهم جبابرة سوء، أما إنّهم أنصار قائمنا ودعاة حقّنا، ثمّ رفع رأسه إلى السماء، وقال: اللهمّ اعصمهم من كلّ فتنة ونجّهم من كلّ هلكة”. (بحار الأنوار: ج57 ص218).
وعن أبي الحسن الأوّل عليه السلام: “قم عشّ آل محمّد ومأوى شيعتهم”. (بحار الأنوار: ج57 ص214).
وكل ذلك ببركة تلك النسمة الطاهرة، والبضعة المطهرة للإمام موسى الكاظم عليه السلام، السيدة فاطمة العالمة، المفسرة، والفقيهة في دين الله، التي جعل الله سبحانه ضريحها ملاذاً للعلماء والفقهاء منذ أن نزلت فيها، ولكن تعززت مكانتها العلمية وأخذت طريقها إلى العالمية بتأسيس حوزتها العلمية المباركة على يدي الشيخ عبد الكريم الحائري الذي انتقل إليها وأسس في جوارها حوزته فتفرَّعت وتباركت حتى صارت قبلة الأنام، ومجمعاً للأعلام الكرام، والمراجع العظام، وربما لهذا روي عن الأئمّة عليهم السلام: “لولا القمّيون لضاع الدِّين”. (بحار الأنوار: ج9 ص106).
فآلاف التحية والسلام على مُشرِّفة قم ومقدستها.
السلام على بضعة الإمام موسى بن جعفر السيدة فاطمة المعصومة في يوم مولدها.