يواصل سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي، دام ظله، في دروس التدبر التي يلقيها خلال شهر رمضان المبارك في كل عام، وتدبرات سماحته في العام الحالي هي حول سورة ابراهيم، وفيما يلي الدرسين السادس والسابع، وكما وردتنا…
تدبرات في سورة (إبراهيم) شهر رمضان المبارك / 1441 هـ – (الدرس السابع)
يُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى
بسم الله الرحمن الرحيم
[قالَتْ رُسُلُهُمْ أَ فِي اللَّهِ شَكٌ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُريدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبينٍ] (10)
معرفة الرسول تكون بالرسالة، ولكن كيف؟
رسالة الانبياء من حيث المحتوى والبيان تختلف جوهرياً مع كافّة المناهج الإصلاحية، فهي ليست دعوة للذات بل الى الرب المُتعال، كذلك رسالة الأنبياء تبلور فطرة الانسان وتثير دفائن العقول ليُصدّق العقل الفطرة، ففي داخل الانسان رسولٌ باطن يُصدّق رسالة الأنبياء وبذلك يتمّ الحجّة على البشر.
الحضارة والقيم
الحضارات البشرية تبدء من القيم السامية كالإيمان والصدق والتعاون و..الخ وحين تتحوّل القيم عند مجموعة من البشر الى ثقافة تنعكس على سلوكهم تتشكّل المدنيات والحضارات ولكن ومع الزمن قد تُفرّغ الحضارات من محتواها وهي القيم ويتمسّك ابناءها بالقشور التي هي نتاج الحضارات كناطحات السحاب والتقدّم التقني، ولكن وبسبب فقدان القيم يبدء السير النزولي عندهم، ولو تأمّلنا في التاريخ سنجد أنّ بعثة الأنبياء كانت في هذه المرحلة أي حين بدء تهاوي الحضارة، كانوا يُنذرون الناس من انقلاب القيم وانحراف السلوك ويدعوهم الى الاستغفار وتصحيح المسار، فإن آمنوا بالنبي أنقذوا حضارتهم وأنفسهم، وهكذا لو عرف الناس أنّ دعوة الأنبياء والمُصلحين إنّما هي في مصلحتهم يكون ذلك مدعاة لإيمانهم.
وكما نجد اليوم الوباء العالمي الذي خيّم كغيمة سوداء على البشرية وما أنتج من المضار الاقتصادية التي قد تتحوّل الى صراعات وحروب، ونجد المُصلحين يوجّهون الناس الى معاجلة سبب ذلك وهو الانحراف القيمي الذي شاع بين البشر، اقول كما نجد اليوم ذلك كذلك كان في التاريخ حيث كان البشر يواجهون مشاكل عديدة تدلّهم على غضب الرب، ففي مصر كان الأقباط يلجئون الى موسى في كلّ مرّة ينزل عليهم عذاب القمّل والضفادع والدم..والخ وكان النبي موسى يدعوا الرب ليكشف البلاء عن الناس، وهكذا سائر الأنبياء.
يقول ربّنا تعالى: [قالَتْ رُسُلُهُمْ أَ فِي اللَّهِ شَكٌ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ]
كانت تلك دعوة جميع الأنبياء حيث لم يدعوهم الى أنفسهم بل الى الرب المُتعال، واذا انتفي الشك في اللّه، فان كل شك و ريب آخر في الرسالة سيكون باطلا، لأنه هو الذي بعث بالرسل، و أظهر على أيديهم المعاجز.
[يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ]
فهو الغني عنكم يريد أن يغفر لكم
[وَ يُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى]
ونتيجة الايمان وتصحيح المسار هو النجاة من العذاب الإلهي الذي ينتظر كلّ من يخالف السنن الإلهية.
[قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا]
و كيف نقبل بولايتكم علينا أم كيف يخصكم اللّه بالرسالة من دوننا، و كان من ضعف ثقتهم بأنفسهم كبشر انهم لم يصدقوا أنفسهم ان يبعث اللّه إليهم بشرا رسولا.
[تُريدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا]
ثم قالوا إنّ تعاليمكم مخالفة لتقاليدنا التي ورثناها من آبائنا و تعودنا عليها، وهكذا حينما تبتلى البشرية بانحراف القيم الذي يدعوهم الى العصبّية الى الآباء أو الى القومية أو الى عِرقٍ مُعين فذلك نذيرٌ بهلاكها.
[فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبينٍ]
فطالبوهم بحجة أقوى من مجرد التذكرة، بحجة مادية مثل احياء الموتى و تفجير ينابيع الأرض ذهبا، و العروج الى السماء.
وبكلمة كانت دعوة الأنبياء هي اخراج البشر من الظلمات الى النور ومن الإنحراف الى الصراط المستقيم ومن الذاتيات والعصبيات الى ما فيه رضوان الرب سبحانه وبذلك تدوام النعم عليهم.
تدبرات في سورة (إبراهيم) شهر رمضان المبارك / 1441 هـ – (الدرس السادس)
جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ
بسم الله الرحمن الرحيم
(وَ قالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَميعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَميدٌ (8) أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ وَ الَّذينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْواهِهِمْ وَ قالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَ إِنَّا لَفي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُريبٍ (9))
يهتمّ البشر عادة بالتجارب، حيث أنّ أهمّ علوم البشر مرتبطة بالتجارب، لكنّ تبقى مشكلة البشر أنّهم يهتمّون بالتجارب التي تخصّ حياتهم اليومية ويغفلون عن تلك التي ترتبط بالحقائق الكُبرى، ومنها التفکیر في تلك الحضارات التي سادت ثمّ بادت، لكن لماذا؟ ماذا حدث لهم؟ وربّنا سبحانه وتعالى يُبيّن تلك الحقائق في قالب حوار جرى بين الأنبياء وأقوامهم، قائلاً: [وَ قالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَميعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَميدٌ]
فالرب المُتعال هو الرزّاق ذو القوّة المتين، لا تنفعه العبادة ولا تضرّه المعصية، فمنفعة العبادة يعود للإنسان ذاته، فهو غنيٌ عن عباده، وهو حميد يلطف بعباده، جاء في الحديث عن النبي صلّى الله عليه وآله أنّ ربّنا سبحانه يقول: «يا عبادي! لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا “. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم. وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد. ما نقص ذلك من ملكي شيئا.»
ولأجل أن يُبّين ربّنا تلك حقيقة أنّ كُفر العباد لا يضرّه يذكر لنا أمثلة عن قوم نوحٍ وعادٍ وثمود وغيرهم حيث أُنزل عليهم العذاب ولم يضر الله كفرهم بل كان كفرهم سبب في انتهاءهم ولأنّ ذات الوسوسة موجودة عند الكثير من البشر والى الآن فإنّ للعبِرة من هذه التجارب أهمّية فائقة، فالأقوام الذين يذكرهم القرآن لم يكونوا في منطقة جغرافية واحدة ولا حتّى من قومية واحدة لكن ذات الافكار كانوا يؤمنون بها،
[أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ]
و هكذا سعى الأنبياء السابقون على موسى .. كم كان عددهم؟ لا يعلمهم الا اللّه، و لكن قصصهم واحدة، و قد جرت ضمن الفصول التالية:
ألف: [جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ]
وأهمّ تلك البينات هي مخاطبة فطرة البشر، فلو استطاع البشر أن يتجاوز الحُجب التي تمنعه من الايمان بالحقيقة كالضغوط الاجتماعية وأمراض القلب كالعناد والكبر، فإنّه يصل الى الايمان.
باء: [فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْواهِهِمْ]
أمّا الناس فقد ردوا أيديهم و وضعوها في أفواههم اشارة الى ضرورة السكوت، كما يفعل من لا يريد الكلام فيجعل يده على فمه ليقول للآخر: افعل هكذا و اسكت، و هؤلاء لم يكتفوا بطلب السكوت من الأنبياء بل أشاروا الى ذلك بأيديهم أيضا توغلا في العناد، و ليبقى عملهم شاهدا على أنهم أساسا لم يستمعوا الى القول فكيف بقوله.
جيم: [وَ قالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَ إِنَّا لَفي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُريبٍ]
بالرغم من أن مرحلة الشك تسبق الكُفر عادة لكن الآية تشير الى الصراع الداخلي الذي كان يعيشه اولئك الأقوام بين الوجدان الذي يُصدّق بما جاء به الرسول والأهواء التي كانت تخالف الدعوة.
وهذا طبيعة البشر الذي يرتكب الجرائم يبقى في صراع مع وجدانه وضميره، ونستفيد من ذلك أنّ الانسان عقد العزم على الايمان بالحقيقة فور معرفته بالحقيقة جاء في الحديث الشريف: «لَا تَجْعَلُوا عِلْمَكُمْ جَهْلًا وَ يَقِينَكُمْ شَكّاً إِذَا عَلِمْتُمْ فَاعْمَلُوا وَ إِذَا تَيَقَّنْتُمْ فَأَقْدِمُوا.»[1]
[1]نهج البلاغة (للصبحي صالح)، ص: 524.