الحج، قرار
|
بقلم: الشيخ حبيب الجمري
مابين قداسة لحظة الاشتياق لبيت الله الحرام، ولحظة عناق العيون للكعبة المقدسة، مسافة دمعتين صادقتين تشفان عن اشراقة حب إيمانية.
لكل منا أحلامه، سواء تلك التي قيل عنها أنها وردية أو بنفسجية، أو أحلام أودعتها - في افئدة البعض منا – الأنامل التي تخطط لسيادة ثقافة أرضية لا صلة لها بتعاليم الأنبياء وخاتمتها القرآنية.
أحلام وطموحات وأماني تتمظهر بانطلاقة واعدة، ولكنها نحو آفاق مهنية لتحقيق ذات بهيمية في حقيقتها، لتعزيز الثقة بالنفس، ولا يهم بعد ذلك أن تكون تلك النفس لوّامة ً أو أمّارة.
وقد يستريح البدن حين ينعم بالليل سباتاً، ولكن الروح التي أثقلها تتابع الأخطاء والخطايا، وحبستها الرغبات في زنزانة الشهوات، لا يحييها بعد غفلة الاستباق نحو النزوات؛ إلا تلك الإشراقة الإيمانية حيث يتجلى حب الله قراراً يقطع به المؤمن حبائل الأهواء، فيتطهر قلبه بصدق نية تقربه إلى الله، ويتلو لسانه التلبيات لأذان الحج الأول: "وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامرٍ يأتين من كل فج عميق" (الحج/ آية 27).
إنها نقلة في تاريخ حياة المؤمن، حين يلبي دعوة الله المتوالية عبر أثير عالم الذر في تاريخ الأنبياء السحيق، إنه يتجاوز صيغ الأحلام المثالية والطوباوية والأهوائية، إلى أحلام تكاد تتجلى فيها أطياف من عوالم الملكوت.
إنها توجيهات الوحي وما بعد الوحي، لتحقيق الحلم المقدس والقرار المصيري دون النظر إلى الوراء حيث زهو الدنيا، إذ تبرق بالخديعة وتلمع سرابا.
إنها اللحظة التي يواجه فيها المؤمن حقيقة الانعتاق لفضاء حرية التوحيد، يقول إمامنا الصادق (ع): (من حج حجة الإسلام فقد حلَّ عُقدةَ من النار في عنقه ومن حج حجتين لم يزل في خير حتى يموت، ومن حج ثلاث حجج متوالية ثم حج أو لم يحج فهو بمنزلة مدمن الحج).
إن سبيل السعادة وصراط النجاة يتبلور بإرادة الحج، ولا تتحقق هذه الإرادة إلا بالتجرد كما يوصي الإمام الصادق (ع) في حديثه: (إذا أردت الحج: فجرد قلبك لله تعالى من كل شاغل، وحجب كل حاجب)، لن تتباعد الشواغل عنك، ولن تنكشف حجب الغفلة بلا إرادة منك، فبعزمك تتقطع أحزمة الشواغل عن كاهلك، وببصيرتك تتكشف عن بصرك الحجب، وهنالك تنطلق مقتحماً العقبات التي تحول بينك وبين الرحيل لبيت الله الحرام وتبصر حقيقة العبودية لله الواحد الأحد.
فهل يحتاج قرار الحج إلى التحدي للانتصار على موانع الظفر بمنافع الحج التي لا تنتهي إلا بالسبق إلى الجنة؟ حيث لا يتأتى ذلك إلا بمشاهدة مناسك الحج من أولها إلى آخرها؟
نعم، ويفصّل الإمام الصادق (ع) ذلك في قوله:
* فوض أمرك كله إلى خالقك.
• توكل عليه في جميع حركاتك.
• سلِّم لقضائه وقدره.
• دع الدنيا والراحة والخلق.
• اخرج من حقوق تلزمك من جهة المخلوقين.
• لا تعتمد على زادك وراحلتك وأصحابك وقوتك وشبابك ومالك.
• ليعلم أنه ليس له قوة ولا حيلةٌ ولا حدٌ إلا بعصمة الله وتوفيقه.
• واستعد استعداد من لا يرجو الرجوع.
تلك بعض وصايا الإمام الصادق (ع)، وذلك هو التحدي، ويتمثل الانتصار حين نتذوق حلاوة الإيمان، ونتمسك بحقنا في حرية التوحيد لمواجهة الأصنام البشرية والنفسية والفكرية، ونتوجه بقرار حر نحو البيت العتيق الذي وضع للناس مباركاً وهدى للعالمين، دون أن يؤثر في قرارنا إرجاف المرجفين، و وسوسة الشياطين، وهيمنة المتسلطين.
|
|