قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
محاضرة يلقيها.. سَمَاحَةُ المَرجِعِ الدّيني آيةُ اللهِ العُظمى السَيد مُحَمّد تَقِي المُدَرّسي
الوحدة.. على ركائز التوحيد والمرجعية الربانية والأخلاق المحمدية
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *إعداد / بشير عباس
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم اللعين
بسم الله الرحمن الرحيم
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ* وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" (سورة آل عمران / 102- 103)
آمنا بالله..
صدق الله العلي العظيم.
كيف استطاع الدين الإسلامي الحنيف بمناهجه وبرامجه وبصائره أن يوحد الشعوب المختلفة ذات المصالح المتناقضة على رقعة واسعة من الأرض، واستمرت هذه الوحدة طيلة قرون متطاولة حوالي ستة قرون بالرغم من كل التحديات؟
إذا قدمنا إجابة سليمة عن هذا السؤال، نستطيع بإذن الله أولاً: أن نحقق الوحدة في أنفسنا ونتحدى بها الأعاصير التي تضربنا يميناً وشمالاً، ثانياً: أن نقدم للعالم النموذج السليم الذي يُهتدى به سبيلاً، في وقت يعاني العالم الرعب النووي والحروب الإقليمية المتعددة و مشاكل التسلح.
إن الوحدة بناء متكامل بحاجة الى قواعد والى أعمدة والى أسقف والى مجموعة من الأمور التكميلية والتقنية، وربنا سبحانه حينما يضرب للوحدة مثلاً، فإنه يضربه على أساس البنيان فيقول سبحانه وتعالى: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ" قاعدة الوحدة الأساسية هي الإيمان بالله، وحينما نقول الإيمان بالله وحده بمعنى وحدة الأمة، لكن ما هي العلاقة بينهما؟ ولماذا قال العلامة كاشف الغطاء الشيخ محمد حسين (رضوان الله عليه): (بُني الإسلام على كلمتين: كلمة التوحيد و وحدة الكلمة)، فما هي العلاقة بينهما؟
*القاعدة الأولى: كلمة التوحيد
إذا أمعنّا النظر نجد فعلاً إن توحيد الله هو أساس الوحدة، نحن جئنا الى الحج لنشهد منافع كما يقول ربنا سبحانه: "وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ"، إن الذي يجرّد الحاج من ثيابه حين الإحرام هو إيمانه بالله، والثياب تعني علاقة الانسان بالأرض والإقليم والقوم والعنصر والثقافة، وعندما يتجرد الحاجّ من ثيابه فهو إنما يتجرد من كل علاقاته، وعندما ينظر الى الجموع الهادرة وهي تفيض من عرفات الى المزدلفة يجد أنهم بثياب موحدة، وهذا يعني أن الذي خلقهم وحّدهم وأعطى لهم مثلاً أن أيها الناس..! أنتم اليوم في الدنيا تتجردون عن ثيابكم فلا تتمايزون.. فلا الفقير أدنى من الغني ولا الغني أعلى من الفقير ولا الحاكم أعلى من المحكوم ولا المحكوم أدنى من الحاكم و لا عربي ولا أسود ولا أبيض.. أنتم اليوم مثلٌ ليوم القيامة حينما تبعثون من قبوركم "فيومئذ لا أنساب بينهم"، فليست هناك تمايزات ولا ينفع الحاج العلاقات المادية في شيء إلا من أتى الله بقلب سليم.
سألني أحدهم وانا بين مكة والمدينة يقول: كيف أحج؟ إنصحني نصيحة؟ قلت له: إذا وصلت الى نقطة العبودية الكاملة الى الله ففي تلك اللحظة سيكون حجك صحيحاً. فقال: كيف ذلك؟ قلت له: إذا نظرت الى أحد فلا تحس بأنك أعلى منه وأقرب الى الله منه، وإذا نظرت الى الأسود، تقول الحمد لله أنا أبيض منه، وأذا نظرت الى رجل قادم من وسط إفريقيا، تقول الحمد لله انا من بلد نفطي عندنا إمكانات وعندنا الذهب الاسود، وإذا نظرت الى شخص لا يعرف اللغة العربية، تقول الحمد لله انا أعرف اللغة العربية و... مثل هذه الحالات إذا استطعت أن تمحيها من نفسك فآنئذ انت قد حججت حجاً إبراهيمياً، وكما يقول ربنا سبحانه وتعالى وهو يخاطب المؤمنين: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ".
أيها الأخوة: جئنا هنا لنتعلم من ربنا ما ينفعنا، إن الذين يأتون الى الحج ويتجردون من ثيابهم ويطوفون مع الناس حول الكعبة ويسعون مع الناس بين الصفا والمروة و يفيضون من حيث أفاض الناس ومن دون تمايز، ثم يعودون ومعهم البقية الباقية من علاقة الدنيا ومن الاعتزاز بما لديهم من إبتزازاتهم وطائفياتهم، فان حجّ هؤلاء ليس كاملاً، ومثلهم كمثل الذي اغتسل بماء جارٍ لكن بقيت الأدران عالقة عليه، وبالتأكيد ربنا سبحانه وتعالى يغفر لأهل عرفات ومن وقف هذا الموقف وكما يقول الإمام الصادق (ع): (من زار هذا البيت و وقف هذا الموقف فهو حاج مغفور له) ويسأله الرجل يقول: ما هو أشد الذنوب؟ فيقول له الإمام (ع): أتعلم أشد الذنوب ما هو؟ فقال: لا، فقال الإمام (ع): هو أن يأتي رجل ويطوف حول هذا البيت ويقف حول هذا الموقف ثم يظن أن الله لم يغفر له. يجب أن تعلم مئة بالمئة أن الله يغفر لك في هذا الموقف لكن المشكلة إذا كان هناك إنحراف في النفس أو شيء من جذور الفساد في داخل الانسان، فإنه يعود الى الذنب مرة بعد أخرى.
فإذن قاعدة الوحدة هي التوحيد، وماذا يعني التوحيد؟ إنه إلغاء كل ما يتصل بالمخلوق والاتصال مباشرة بالخالق، أنا عالم.. الحمد لله، لكن لا ينبغي أن أتكبر بعلمي، فهذا العلم من الله وهو يشبه قرص (سي دي) الموجود في جهاز الحاسوب، فعندما يخرجونه يبقى الحاسوب فارغاً، وهناك من علمائنا لعلكم تعرفونهم من الماضين ولا أريد أن أذكر اسمائهم، في آخر حياته لم يكن يعرف اسماء أبنائه! "وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ"، فإلى متى هذا التفاخر..؟! إن كل ما لدينا من نعم الله وعلينا شكره سبحانه وتعالى، فلماذا نتكبر ونتطاول على الناس بالعلم والنسب والحسب والمال والجنسية؟
نقل لي أحدهم، ولولا الذي نقل لما كنت اتحدث بهذا الشيء، رجل من أشراف الكويت ومن إخواننا الطيبين نقل لي: بأنه في اليوم السابع من شهر محرم الحرام وفي حسينية من الحسينيات التي هي مدرسة في الدين، وإذا الخطيب يتكلم ويقول: انت أيها الكويتي المتربع على عرش المال والجنسية الكويتية التي تبرق من بعيد! لا تتطاول على هذا البنغالي الذي يعمل عندك، فلعله يأتي يوم تعمل أنت عند هذا الشخص، وأن الفلك دوار، فقال: قلت في نفسي أما هذه فمن المستبعد، أنا كويتي أعمل عند الخادم البنغالي، كيف يكون؟! فقال: هذا كان في اليوم السابع، وجاء اليوم الثامن والتاسع من محرم ويوم عاشوراء هاجم صدام الكويت واحتلها، فقال: كان عندي شغّال بنغالي يعمل عندي سائقاً فقلت له: أعطني مفتاح السيارة، فقال لي: (اذهب .. لم يعد هنالك وطن)! فقلت له سبحان الله ماهذا؟ لكن الله رفع البلاء عنهم، وهذه كانت مجرد (عصرة) "عَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" فلا يتمادى الانسان بغرور ولا يتصور هو شيء والناس شيء آخر.
عندما يلبس المحرم ملابس الإحرام يجب أن يلبس معها لباس التقوى، "وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى"، هذا لباس التقوى فهو خير وأفضل زينة، أما هذه الملابس التي نحن نلبسها فهي مجرد اشارات الى ما ننتمي اليه، فالعالم المعمم إشارة الى إنه عالم دين، وذلك الذي يرتدي بدلة ضابط إشارة الى أنه ضابط، فهي مجرد اشارات لتنظيم أمورنا ولا بأس بها، لكن لايجب أن تؤثر في مخّنا وتغيّر توجهنا.
تقول الآية الكريمة: "الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ"، إما شوال و ذي القعدة و ذي الحجة، أو ذي القعدة و ذي الحجة ومحرم، وحسب الأختلاف، "الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ"، ما هو الفسوق؟ جاء تفسير (الفسوق) في الآية الكريمة من سورة الحجرات: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ"، فالفسوق هو أن يسخر قوم من قوم، والقرآن في سورة البقرة يقول: "فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ" وقد استنبطت من هذه الكلمات الثلاث كل تروك الإحرام بإستثناء الصيد، فله علاقة بأمر آخر، وكل ما يرتبط بالزينة من ملابس والمشاهدة عبر المرآة وغيرها كل ذلك يرجع الى حرمة الفسوق في الحج، فلا ينبغي للحاجّ أن يتمايز عن صاحبه، ولذلك ربنا خاطب النبي الأعظم (ص) وخاطب قريشاً فقال: "ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ" أي هنا لا تمايز بين قريش وبين غيرها.
*القاعدة الثانية: مرجعيتنا في الخلاف
إن الخلاف حالة طبيعية، بل إن الخلاف والاختلاف تقدير الله وسنته، فهو سبحانه وتعالى لم يخلق الأشجار بصورة واحدة ولا الأحياء نوعاً واحداً ولا الصخور بنمط واحد ولا الأراضي بطبيعة واحدة، إذن، الاختلاف دليل توحيد الله ولأن الله واحد فكل شيء متعدد إلا الرب، هذا الاختلاف يجب أن نرسمه بإسلوب معين، أي أن نمتصّ أو نستلّ منه حالة الصراع ونضعه في إطار التنافس البناء، لكن كيف ذلك؟ الجواب: بالمرجعية، المتمثلة بالله سبحانه، لكن أين تتجلى مرجعية الرب فيما يتصل بالخلافات؟ إن ربنا سبحانه وتعالى يقول: "وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ".
تتجلى المرجعية الإلهية في أمرين:
الأمر الأول: القرآن الكريم و رسول الله..
أيها الأخوة: تدبروا في آيات القرآن الكريم، إن من الأمور الأساسية اليوم في الحج انفتاح الانسان على كتاب الله المجيد، فهنا مهبط الوحي، فالحاج يمشي في أماكن نزل فيها جبرئيل على النبي الأكرم (ص)، لذا فانه يقرأ القرآن بطريقة مختلفة، وإذا قرأت القرآن وانت في المسجد الحرام لا تموت إلا وترى رسول الله يبشرك بالجنة، وهذه رواية، إذن لنتدبر في القرآن الكريم، و ربنا يقول: "وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ" ثم يقول: "وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ"، فماذا يعني الاعتصام بالله؟ إنه يعني الاعتصام بآيات الله و رسوله، "فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم" ثم يقول: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ* وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ"، والاعتصام هنا هو ذاك الاعتصام، والاعتصام بحبل الله يعني الاعتصام بآيات الله ورسوله وإمتداد الرسول والأئمة المعصومين (ع)، ولذلك قال النبي (ص): (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي)، "وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ".
كم هي عدد المرات التي نقول فيها في الليل والنهار: "أهدنا الصراط المستقيم"؟ ربما عشر مرات على أقل التقادير، سوى النوافل، والقرآن الكريم يبين لنا الصراط المستقيم، "وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ"، وثمة آيات أخرى أيضاً تبين لنا هذا الصراط.
*الأمر الثاني: الفقهاء..
هنالك شخص ما يقول أين الإمام؟ أقول له: يا أخي: أمامك الآن بعد القرآن الكريم و روايات أهل البيت، كلمات الفقهاء لأن كلمات الفقهاء مستوحات من القرآن الكريم و روايات أهل البيت (عليهم السلام)، أليس كذلك؟ وهذه الرسائل العملية التي بين يديك حالياً، هي رسائل علماء الدين والمراجع، وخلف كل هذه الرسائل سنين متطاولة من البحث، ويمكن أن أقول مليون ساعة أو مليوني ساعة أمضاها فقهاؤنا من عصر أهل البيت الى الآن، و أرهقوا أنفسهم واجتهدوا حتى يخرجوا لك هذه المسألة الشرعية كالإحرام والمشعر وعرفات.
أيها الأخوة: إن هذا هو البرنامج، والذي يقول غير هذا فهو خاطئ، لأنه يبعدنا عن منهاجنا وبرامجنا وعن خريطة عملنا، فالذي يخرج من البيت بسيارته يجب أن يسأل شرطي المرور أو يمتلك خارطة تهديه السبيل، لكن عندما يمشي من دون خارطة فانه لن يهتدي، وهناك أصوات ناشزة تحاول أن تبعدنا عن خط علماء الدين، فأحذروهم يرحمكم الله.
إن العالم والفقيه الذي ترجع إليه يمثل مرجعيتك اليوم بعد عصر الأئمة المعصومين (ع)، فهذه هي مرجعيتك وتعدّ أساس وحدتنا و وحدة العالم، فان قاعدة التوحيد تتمثل في ركائز الوحي المتمثل في كتاب الله وفي رسوله، فكتاب الله من ناحية الثوابت، و رسول الله في المتغيرات. بعدئذ هنالك أمور أخرى، ربنا سبحانه وتعالى في سورة الحجرات بعد هذه الآية يقول" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ" إخواني تكميل هذه الوحدة أناقة، وفي هذه الوحدة الرصّ ومن معاني الوحدة أن لا يظن أحدنا بالآخر سوءاً. وإذا وسوس إليه الشيطان وظل يتجسس وعرف من أخيه شيئاً أو اكتشف سوءاً من أخيه فلا يغتبه. وربما تسألني قائلاً: سيد انت تقول نحن لا نهتم بعيوب بعضنا البعض وفي الآية الكريمة ربنا يقول"وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَر" فكيف نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر؟ وجوابي لك في أمرين: اولاً: إذا وجدت في الآخر تجاهر بالإثم والفسق فتكلم معه وأنصحه وتكلم عليه بالذنب المتجاهر به، لأن إمامك علي بن أبي طالب أمير المؤمنين (سلام الله عليه) يقول أمرنا رسول الله أن نلقى أصحاب الكبائر بوجوه مكفهرة. لا تضحك بوجهه، عبّس وجهك في وجهة حتى يعرف إن عمله الذي تجاهر به غير صحيح، الأمر الثاني: إذا لم يكن متجاهر بالإثم.
روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إنه إذا رايتم من أخيكم شيء فلا تواجهوه به، أي لا تقولوا له بشكل مباشر: أنت مخطئ، - وهذا لا يعني السكوت عنه ولا إغتيابه -. فقالوا يارسول الله فكيف نفعل؟. قال كنّوا له الكناية وكان من أخلاق النبي (ص) الحميدة وهو على خلق عظيم إذا رأى من أحد أصحابه شيئاً يقول: مالي أرى بعضكم يتكلم بصفة عامة من باب (إياك اعني واسمعي ياجارة)، أي أنظروا الأخلاق الحسنة، إننا نتأدب بأخلاق رسول الله (ص)، إذن الوحدة المطلوبة في الأمة قاعدتها التوحيد ونبذ كل العنصريات والإقليميات وكل ما هو بعيد عن توحيد الله ثم ركائز هذه الوحدة هو عدم الحديث عن الآخرين ومن ثم الاعتماد على المرجعية الصحيحة لحل الخلافات وفضها.
*القاعدة الثالثة: التزين بالخلق العظيم..
أشكر الله سبحانه أنه خلقنا من أبوين مؤمنين وجعل أمهاتنا وآباءنا في درجات من الخلق النبوي الشريف وتعلمنا جزء منه، ولكننا نحاول اليوم أن نحصن أنفسنا من هذا الأسلوب الجديد الذي جاءنا من وراء الحدود، إننا نرى أناس يتكلمون عن أناس آخرين، ونشهد حالات تسقيط للشخصيات.. هذه الأساليب ليست من أساليبنا. إقرأوا كتب علمائنا الكرام ورسائل الشيخ الأنصاري وكفاية الشيخ الآخوند وجواهر الشيخ محمد حسن النجفي، إقرأوا كتب علمائنا وحينما يريد أحد العلماء أن يتكلم عن أحدهم لا يقول: قال فلان... بل يقول: قيل ولا يذكر اسمه، لماذا؟ حتى لا يكون هناك نوع من المنقصة، أو (قال بعضهم) ثم يرد عليه، أما إذا ذكر اسمه فيحترمه أكثر الإحترام، فالمحقق الحلي وهو حسب بعض الفقهاء، أفقه فقهاء أهل البيت (ع) وهو صاحب كتاب (شرائع الإسلام)، هذا الكتاب العظيم، وفي بعض الأحيان يقول: قال أبو جعفر ويقصد الشيخ الطوسي وإذا لم يتفق مع الشيخ الطوسي في كلام ما يرد عليه بالطريقة التالية فيقول: (ولو قيل كذا لكان أحسن)، لاحظ الآداب الرفيعة.
أما نحن.. فيأتي الآن شخص ويكتب على شبكة الأنترنت ومع الأسف إن الأنترنت صار اليوم مسرحاً للأخلاق الفاسدة والكلام على بعض الناس، والبعض الآخر يرد بنفس الأسلوب، يا أخي هذا لا يجوز، هذا إما تهمة وإما غيبة وإما استهزاء وإما تنابز، فتعالوا نتأدب بأخلاق رسول الله وندع الخلافات جانباً، فالخلافات موجودة لكن المطلوب هو الخلاف الذي يدفعنا الى التنافس الإيجابي، "فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً"، أما الخلاف نحوله الى تسقيط شخصيات وتمزيق الناس، فهذا لا يجوز وانا أوصي الشباب الذين يدخلون على الأنترنت، هذه الشبكة العنكبوتية، أن استفيدوا منها خيراً أو إتركوها حتى بالنسبة الى من تخالفه الرأي والعقيدة، وهكذا كان شخص رسول الله، و ربنا سبحانه يقول: "وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"، أحدهم رأى أحد أصحاب الإمام الصادق (ع) في مسجد النبي (ص) فقال له: تعال وناقشني، فناقشه في مسألة من المسائل، فقال له: هذا كفر وشرك وهذا كذا... وكذا... فقال له ذلك الشخص: على يدي من تتلمذت؟ قال: تتلمذت على يد الإمام الصادق، فقال له: ما هذه أخلاق الإمام الصادق (ع)! فقال له: كيف؟ فقال له: بالأمس كنت في نفس المكان وناقشته في رسالة النبي وما واجهني بهذا الكلام إنما ناقشني بمناقشة جميلة: "وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ".
دعونا نتأدب بأخلاق رسول الله، وحتى الذي يكلمكم بكلام بذيء، أعرضوا عن الجاهلين، "وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ"، وفي آية أخرى "لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ"، تكلموا معهم بكلام جميل، ربما لا يسمع كلامك، لكنه يذهب مساءً وينام عقله، وعندما يستيقظ يعود ويفكر ويقول: انا تكلمت عليه بكلام بذيء لكنه أجابني بكلام جميل، ماهذه الأخلاق الحسنة؟ فيتكون له رد فعل فيقبل الكلام.
نحن بحاجة حقاً الى هذه الأخلاقيات، فنحن جئنا الى الحج وهمّة الحجيج هي التمسك بالأخلاق الحميدة، وعندما نعود يجب أن تكون أول همتنا أن نوحد صفوفنا ونوحد بعضنا مع البعض الآخر، و لا تحولوا الخلافات الى صراعات وإسقاطات وأسباب للشقاق والنفاق.. ألتزموا بحسن الأخلاق.
أسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم وللمسلمين جميعاً أن نعود من هذه الحجة بزاد عظيم من التقوى وببركة شاملة ليس للحجاج فقط بل ولأولئك الذين وفدنا نيابة عنهم فنحن وفد الرحمن ما جئنا نمثل أنفسنا فقط بل كل واحد منا يمثل طائفة من ورائه حتى نعود لهم ببركة الحج ولكي نعود وطيب الحج في أخلاقنا وعبق الحج في سلوكنا نعود ونحمل معنا روح جديدة من المحبة وروح الألفة والتقوى.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا دعاة إليه ونعمل بما أمر ونتجنب ما نهى عنه، إنه ولي التوفيق وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.