النبوة.. اختبار الإيمان وقوة النفس الانسانية
|
*أنور عز الدين
أثارت الأقوام السابقة تساؤلاً عن هوية الأنبياء والمرسلين من قبل الله تعالى، وكيف يكونون من جنس البشر ولا يكونوا من الملائكة أو من ذوي المعاجز والاعمال الخارقة؟ واليوم نجد هذا التساؤل مايزال قائماً، لكن بصياغة أخرى تبعاً للتطور الفكري والثقافي لدى البشر، لماذا يتوجب اتباع النبي المرسل من قبل الله تعالى؟
هذا التساؤل كان المعضلة الكبرى التي تحولت الى عقبة كأداء في المسيرة الإيمانية لمختلف الأمم مع أنبيائها وعلى مر التاريخ الانساني الطويل. وللاجابة عليه نقول: إن الله عز وجل لو كان قد بعث من ملائكته رسلاً الى البشر، أو خلقاً مما يكبر في أعينهم، ولو كان هؤلاء معززين بالقدرة الخارقة، وإحداث المعاجز المستمرة بحيث تتحول الأنهار الى عسل بمجرد أن يمروا عليها، وتفتح لهم كنوز الأرض ذهباً وفضة.. لو كان كل ذلك وغيره لكان الإيمان المطلوب من هذه الأمم سهلاً يسيراً، لايحتاج الى جهد وعناء الأنبياء والرسل (عليهم السلام). بل لانتفى مفهوم العقاب والثواب، إذ ان الله قادرٌ على أن يجعل الناس كلهم مؤمنين.
لذا برزت المشكلة لدى الشعوب والأمم في تقبل الانبياء والرسل الذين حملوا رسالات السماء الى ابناء جلدتهم ليهدوهم الى صراط مستقيم، علماً إن الله تعالى بيّن بوضوح في القرآن المجيد مهمة النبي والرسول، "وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ"، وقد تكررت هذه العبارة بألفاظ قريبة غير مرة في الكتاب المجيد، مما يعني إن ثمة اصرار على أن يكون النبي الأكرم من بين الناس المراد هدايتهم، أمام الصعوبة والرفض منهم لتقبل فكرة كهذه، ولكن الارادة الالهية أبت إلا أن يكون المرسلون من البشر. قال الله سبحانه: "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ" (سورة الجمعة /2)، ومنهم بمعنى من أصلابهم وذريتهم.
حكمة الاختيار الجماهيري
عندما أمر الله تبارك وتعالى ابليس بالسجود لآدم، أبى واستكبر بحجة أنه مخلوق من النار، في حين أن آدم خلق من طين. وحسب قوله – عليه اللعنة- بان ا لنار أفضل من الطين! فاقترح ابليس الرجيم على الله جل وعلا على أن يسجد له سجدة تستغرق أربعة آلاف سنة شريطة أن يعفيه من السجود لآدم، ولكن الله تعالى أبى ذلك لأنه لايريد عبادته فهو غني عنها، ولكنه يريد الطاعة.
إن صفة الاستعلاء والاستكبار التي كانت كامنة في ابليس وانتقلت الى بني البشر، هي التي تحولتا الى عوامل للمعصية ومخالفة الاوامر الالهية، كما فعلها ابليس أول مرة، وهو الاستكبار الذي يؤدي بالانسان الى الكفر، كما يصرح بذلك ربنا سبحانه قائلاً: "إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ" (سورة البقرة /34).
من هنا فان صفة الكبر والعلو لا يمكن اسجتثاثها إلا بمساعدة من نظير للانسان، وإلا كيف يتسنّى لمن يملك القدرات الخارقة أو المنزلة والمكانة المميزة أن يقنع الآخرين بخطأ السلوك الذي يتبناه، ولذا نجد التأكيد الكبير من قبل النبي الاكرم وأهل بيته الأطهار وخلال مسيرة حياتهم على تنمية صفة التواضع ونبذ التكبّر مهما كانت الظروف، وأمامنا الكثير، الكثير من القصص والروايات عن النبي وعن أمير المؤمنين (صلوات الله عليهما)، في تقديم الصورة الحيّة عن التواضع ونزع صفة الكبر من النفس الانسانية، فهذا نبينا الأكرم الذي أشاد الله تعالى باخلاقة في القرآن الكريم: "وانك لعلى خلق عظيم"، يُهدّئ من روع إمرأة في المدينة ارتعدت واستبدّ بها الخوف عندما وقفت أمامه (صلى الله عليه وآله)، فقال: - مضمون الحديث- ماذا ورائك...؟ إنما انا ابن من كانت تأكل القدّ... وهو الخبر اليابس.
عقبة التكبّر في طريق الولاء
ان الكبر، صخرة صماء تجثم على القلب، ولابد للانسان من ازالتها ولو من خلال تحطيمها شيئاً فشيئاً. فالكبر هو الغل الذي يقيد الانسان، ولابد من تحطيمه والتخلص منه، وإن كان ذلك خلال سكرات الموت فانها الفرصة الأخيرة. فإن لم يستطع الانسان التخلص منه في أيام القوة والشباب، وإن لم يستطع أثناء سكرات الموت، فان هذا الكبر سيتحول في القبر الى عذاب هو من أشد العذاب وذلك على يد ملائكة غلاظ شداد.
وبناء على ذلك فان الانسان المؤمن لايمكن أن يدخل الجنة وفي قلبه ذرة واحدة من الكبر، فالاحرى به أن يتخلص منه في هذه الدنيا عبر التضرع الى الله تعالى، والدعاء والخشية والتواضع له، ومن خلال أداء الممارسات العبادية، كالصلاة والصيام والطاعة والتسليم لأولي الأمر من المؤمنين. فعندما يمثل الانسان المؤمن لأمر انسان مثله هو أهل للطاعة، فانه سيتخلص بذلك من آفة الكبر الشيطانية.
وهنا يمكننا الاجابة بقوة عن السؤال الآنف الذكر الذي صدرنا به المقال، فأن الله جل وعلا أرسل الأنبياء والرسل (عليهم السلام) دون أن تكون لهم السطوة وأسباب الهيمنة والجبروت. ذلك لأن الأنبياء والرسل (عليهم السلام) إنما بعثوا لاختبار الانسان، ولينتزع الله بهم الطاعة من بني آدم من خلال ازالة الكبر من مكامن القلوب، ولباب العقول. وبالفعل فان المؤمنين الذين انضووا تحت لواء الأنبياء (عليهم السلام) استطاعوا أن يتطهروا من هذا الداء الدفين والآفة المقيتة، فاصبحت نفوسهم نقية لاتشوبها أدنى ذرة من الكبر.
وفي عصر الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت الأوامر والنواهي تدخل حيز التنفيذ حال صدورها دون اعتراض معترض، إلا أولئك الذين لم تتطهر قلوبهم بعد من داء الكبر. فالصفوة المؤمنة كانت تبادر الى تطبيق وتنفيذ كل ما كان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) يرسمه لها دون أي اعتراض، لأنها كانت ترى الاعتراض عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) بمنزلة السقوط والهلاك، كما يقول ربنا سبحانه بصريح العبارة: "فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً" (النساء /65).
ولذلك فاننا نجد إن أفضل ما يستشفع به عند الله سبحانه وتعالى هو حب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وحب أهل بيته (عليهم السلام)، الذين هم الواسطة الى رضوان الله تعالى.
ومن الملاحظ أن الروايات تؤكد علينا كثيراً في أن نكثر من الصلاة على النبي وآله، وسر هذا التأكيد هو أن تتكون بيننا وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وشائج الحب والاخلاص، وهذه الوشائج هي الرابط الموصل بيننا وبين الله سبحانه وتعالى. فعندما نكون على اتصال مع الرسول وآله في الدنيا فان هذا الاتصال سينتقل الى الآخرة، حيث سيكون سائداً في الجنة أيضا.
|
|