فلسفة الحج
|
*طاهر القزويني
إن إبراهيم أذنّ في الناس بالحج، فقال: أيها الناس إني ابراهيم خليل الله، إن الله أمركم أن تحجوا هذا البيت فحجوه، فأجابه من يحج إلى يوم القيامة، وكان أول من أجابه من أهل اليمن.
وليس كل الناس يدركون مغزى الحج فمنهم من يؤمن به ويؤدي حقه ويعرف كنه الحج، ومنهم من لايؤمن به ولايؤدي حقه، ويظن أن هذا البيت هو مجرد طابوق وحجر وأعواد مرتفعة وأن الناس يطوفون حول أحجار لاتضر ولاتنفع.
والناس صنفان فصنف لايعقل هذه الأمور ولايفكر بها، وصنف يسخر من هذه الطقوس ويقول كيف نطوف حول حجر لايضر ولاينفع؟ أو ما معنى الركض سبعة أشواط ما بين الصفا والمروة؟ أو ما هي فلسفة رمي الجمرات على حجر وما إلى ذلك؟
مثل هذا النموذج من الناس لايقتصر وجوده على زمان دون زمان، ففي كل عصر هناك من يشكك بفلسفة الحج وأسراره، ومن حق كل إنسان أن يسأل ويفكر فيما أمر الله به عباده، ومن حقه أن يحصل على الإجابة المقنعة، وبطبيعة الحال فأن العاقل المفكر تهجم عليه الأسئلة والشكوك بخصوص هذا الموضوع وموضوعات أخرى، إذ كيف يطوف الناس حول حجر ويدعون أنه بيت الله؟ فهل يعقل أن يكون بيت الله من حجر؟ وغير ذلك من الأسئلة الكثيرة التي لانجد لها جواباً إلا في مدرسة أهل البيت صلوات الله عليهم.
وذات مرة أتى إبن أبي العوجاء (وكان مشركاً) إلى الإمام الصادق عليه السلام فجلس إليه في جماعة من نظرائه ثم قال له: يا أبا عبدالله إن المجالس أمانات، ولابد لكل من كان به سعال أن يسعل فتأذن لي في الكلام، قال الصادق عليه السلام: تكلم بما شئت.
فقال إبن أبي العوجاء: إلى كم تدوسون هذا البيدر، وتلوذون بهذا الحج، وتعبدون هذا البيت المرفوع بالطوب والمدر، وتهرولون حوله هرولة البعير إذا نفر، من فكرّ في هذا أو قدّر، علم أن هذا فعل أسسه غير حكيم ولاذي نظر، فقل فإنك رأس هذا الأمر وسنامه وأبوك أسه ونظامه؟
فقال الصادق عليه السلام: إن من أضله الله وأعمى قلبه استوخم الحق فلم يستعذبه وصار الشيطان وليه، يورده مناهل الهلكة ثم لايصدره، ان هذا بيت استعبد الله به خلقه ليختبر طاعتهم في إتيانه، فحثهم على تعظيمه وزيارته، وقد جعله محل الأنبياء وقبلة للمصلّين له فهو شعبة من رضوانه وطريق تؤدي إلى غفرانه، منصوب على استواء الكمال، ومجتمع العظمة والجلال. (بحارالانوار، ج99، ص29).
إن من لايفهم ولايدرك المغازي من أفعال الحج والأمور المتعلقة بذلك سيرى هذا الأمر كما رآه إبن أبي العوجاء، الذي نظر إلى الطوب وإلى الحجر ولم ينظر إلى ما يشتمل عليه هذا البناء من مفاهيم وقيم.
هذه الأسئلة وهذه الشكوك إذا قادت الإنسان إلى الإيمان فإنها قد تكون من أعلى المعارف لأنها ستقوده إلى حقيقة الدين الشريف فهو سيدرك أن القدسية ليست في هذا البيت المكوّن من الطوب وإنما في الطاعة لخالق هذا البيت الذي أمر الناس بالطواف حوله، فقدسية المكان متأتية من قدسية الأمر الإلهي الذي إتخذه بيتاً له.. ولما نصل إلى هذا المعنى ندرك أيضاً بأن الله سبحانه وتعالى يمكن أن يعطي القدسية لأشياء أخرى أو لبشر كما فعل بالنسبة إلى نبيه وأهل بيته صلوات الله عليهم، ليس هذا فقط بل يمنح القدسية لأي واحد من المؤمنين ولانتعجب من ذلك، لأنه إذا كانت الكعبة هي بيت الله فإن قلب المؤمن هو أيضا بيت الله، وفي هذا الإطار فقط يمكن أن نفهم لماذا أصبح المؤمن أقدس من الكعبة.
وقد أوضح الإمام الصادق عليه السلام في حديث مطول فلسفة كل عمل من الأعمال التي يقوم بها الحاج، ومن يقرأ هذا الحديث يدرك حقاً وصدقاً فلسفة الحج، ففي بداية حديثه يتكلم الإمام عن الإستعداد النفسي والروحي للإنسان المؤمن للذهاب إلى بيت الله، حيث أنه عندما تتوفر الفرصة للمرء حتى يذهب للحج فإن الأفكار والهواجس ستهجم عليه، إذ إنه كيف سيترك أهله وعياله؟ وكيف ستسير أمورهم؟ وماذا سيحل بهم؟ وكيف سيكون حال عمله؟ وغيرها من الوساوس التي تثبط عزيمة الإنسان لذلك يقول الإمام (إذا أردت الحج فجرّد قلبك لله من قبل عزمك من كل شاغل وحجاب كل صاحب وفوض أمورك كلها إلى خالقك، وتوكل عليه في جميع ما يظهر من حركاتك وسكناتك، وسلّم لقضائه وحكمه وقدره، ودّع الدنيا والراحة والخلق).
ويتحدث الإمام ايضاً عن ضرورة أن يخرج المسلم حقوق الناس من ماله حتى يذهب إلى الحج وليس في ماله شبهة وليس لأحد عليه حق، وإلا بطل حجه وذهبت أعماله هباءً. ويدعو الإمام الحجيج بأن يتخذوا من هذا الأمر فرصة لاكتساب الأخلاق الفاضلة وقد جاء في الحديث: (وراع أوقات فرائض الله وسنن نبيه صلى الله عليه وآله وما يجب عليك من الأدب والاحتمال والصبر والشكر والشفقة والسخاء وإيثار الزاد على دوام الأوقات) .
ثم يطلب الإمام من الحاج ان يغسل روحه وبدنه بماء التوبة الخالصة بحيث لايفكر بالرجوع إلى الذنوب التي كان يرتكبها. وفي جانب آخر من حديثه يبين الإمام عليه السلام حقيقة ومعاني الأفعال التي يقوم بها الحجيج فقال الإمام: واحرم عن كل شيء يمنعك من ذكر الله ويحجبك عن طاعته، ولبّ بمعنى إجابة صافية خالصة زاكية لله عزوجل في دعوتك متمسكاً بالعروة الوثقى، وطف بقلبك مع الملائكة، بمعنى أن تستشعر وجود الملائكة حولك وهم يطوفون بجوارك حول البيت الحرام.
ولاتهرول كأي يوم وكأي زمان، بل هرول هرباً من هواك وتبرياً من جميع حولك وقوتك لأنه لا قوة إلا بالله، وإذا خرجت إلى منى فأخرج قبل ذلك من غفلتك وزلاتك، واعترف فوق القمة في عرفات بالخطايا والذنوب حتى لاتعود إليها، وتقرّب إلى الله واتقه في مزدلفة.. وإذا صعدت الجبل فلا تصعد دون أن تشعر بأن روحك تصعد إلى الملأ الأعلى وإذا ذبحت الشاة فأذبح معها طمعك في الدنيا وأهواءك المضلة، وإذا رميت الشيطان بالجمرات فارم شهواتك والأفعال الذميمة بالحجرات نفسها، واحلق العيوب الظاهرة والباطنة بحلق شعرك، وادخل في أمان الله إذا دخلت الحرم، وزر البيت وقلبك واعي بأنك زائر الله في بيته وأنه يراك وأنت قادم عليه، و زُر البيت متحققاً لتعظيم صاحبه ومعرفة جلاله وسلطانه واستلم الحجر رضاء بقسمته وخضوعاً لعزته، وودّع ما سواه بطواف الوداع، واصف روحك وسرك للقاء الله يوم تلقاه بوقوفك على الصفا وكن ذا مروّة من الله نقياً أوصافك عند المروة، واستقم على شرط حجتك ووفاء عهدك الذي عاهدت به مع ربك وأوجبت له إلى يوم القيامة.. (بحارالأنوار، ج99، ص124).
لانجد وصفاً أرقى وأعظم من هذا الكلام في وصف الحج إلا في مدرسة أهل بيت النبوة صلوات الله عليهم، وبسبب طول الحديث إقتبسنا منه بعض العبارات ولم نأت به كله.
|
|