قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

مفهوم العبادة و تقريب المسافات الى الله
*كريم محمد
ربما من المتوقع أن تتداعى صور المتهجدين حين تطرق الكلمة الآذان، بيد أن مطالعة قصة أبليس تشير إلى معان قد تكون مغفولا عنها. لقد كان ابليس يعبد الله، ولكنه كان يستهدف من هذه العبادة اثبات شخصيته لا الخضوع والتسليم لله، فكان يطمح لنفسه وذاته ولم يكن يريد الله.
فالخضوع لانسان أمر الله - تعالى - بالخضوع له واجب، والا لما جاز لنا ان نقدس الحجر الاسود. ففرق هذه الحجارة عن كل احجار الارض ليس في ذاتها وانما في أمر الله بتقديسها.
* الأمر الالهي هو المقياس
ومن هـذا المبـدأ تنطلق الولايـة، فالـولاية تعني الامامة والقيادة الاسلامية، والخضوع لما أمر اللـه هو محور جميع الاحكام الشرعية.. فلأن آدم كان خليفة الله في الارض فقد أمرت الملائكة بالخضوع له، ذلك لأن نور الولاية كان عند آدم (ع)، فقد اقتضت المشيئة الالهية ان ينبعث من صلبه الانبياء والاوصياء والمرسلين، ولذلك فقد أمرت الملائكة جميعا بالسجود لآدم.
وبناء على ذلك فان الولاية هي امتحان للانسان ولقدرته على طاعة ربه في جميع الأمور ومن ضمنها طاعة القائد كما ابتلى الرب بني اسرائيل بطاعة طالوت.
ونحن عندما نتبع ائمة الهدى (ع) ونخلص لهم ونجعلهم وسيلة بيننا وبيـن الله تبـارك وتعالى فانـما نفعـل ذلك لان الله قـد أمـرنا بذلك قائلا: "وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ"، نعم ان باب اللـه مفتوح للسائلين، ولكنه يأمرنا ان نأتيه من ابوابه فيقول: "وَ‏أْتُوا الْبُيُوتَ مِن أَبْوَابِهِا".
ان اللـه موجود في كل مكان ولكنه يأمرك ان تذهب الى الكعبة او الى عرفات في حين انه لا يوجد اي اختلاف بين البيت الذي تسكنه عن الكعبة او جبـل عـرفات مـن ناحيـة العنصر، ولكن فضيلة تلك الاماكن تكمن في ان الله سبحانه أمرنا بالتوجه اليها، وفضيلتي كانسان هـي الخضوع للأوامر الالهية، فمن خلال هذا الخضوع يمحص ايماني .
وهكذا فان تجميع الناس في ذلك البر القفر البعيد الذي يصعب الوصول اليه بين الاحجار والصخور انما هو لكي تجرب ارادة الانسان ويمتحن ايمانه .
وعلى هذا فان القضية الاساسية التي يجب ان نلتفت اليها، اننا عندما نذكر الله سبحانه وتعالى صباحاً ومساءً ونسبحه ونقدسه، لكي لانقدس شيئا آخر غير الله سبحانه وتعالى، اللهم الا اذا أمرنا بذلك كما تقدم، ومن خلال استقراء قصة ابليس وآدم نستفيد ما يلي :
1- ان العبرة الرئيسة من قصة ابليس اننا نحن ايضا نعيش الآن نفس الحياة ؛ فالانسان هو الانسان، وسنن الله تعالى باقية لم تتغير، فنحن ايضا قد نستكبر عن طاعة من أمرنا الله بطاعتهم .
2- أن الأساس الذي تقوم عليه علاقات المجتمعات والشعوب لا ينبغي أن يكون ماديا كالمال والقوة.
ان هذه الاعتبارات وغيرها هي بحد ذاتها علاقات عنصرية ينبغي محاربتها والقضاء عليها، فمثل هذه العلاقات الشاذة هي التي تهدم اساس التوحيد في المجتمعات الاسلاميـة.
وهكذا فان ابليس انما اصبح لعينا، وانما طرد من الجنة لانه تكبر وقدس عنصره، فحذار من هذا العمل ومن الاغترار بالمكاسب المادية .
ان هذه الحالات النفسية الشاذة هي التي تؤدي الى سقوط الانسان، فلابد ان يكون الدين لله كما يقول تعالى: "أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ"، ولنعلم اننا لو اشركنا به ولو بمقدار ذرة فان اعمــالنا جميعها ستحبط كما يشير الى ذلك: "وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ".
وعلى هذا الاسـاس فان العلاقات في اوساط الامة الاسلامية ينبغـي ان تقـوم على اساس ايماني توحيدي لا على اي اساس آخر، فالاعتبارات المادية هي كلها مداخل للشيطان في قلوبنا، فليس من حقنا ان نفتخر باللون او اللغة او الارض او التجمع الذي ننتمي اليه.
* التسليم شرط التوحيد
إن الله هو الغني الحميد، وعندما أنـزل شرائعه لبني آدم وأوجب عليهم ما اوجب من الفرائض والسنن وحينما أمرهم ونهاهم ؛ فوراء كل ما نزل من التشريعات والأوامر والنواهي حكم ربانية تقوم عليها .
والقرآن الكريـم لم يـذكر حكما شرعيا، او فريضة الهية الا وشفعهما ببيان الحكمة والقيمة اللتين ينطويان عليهما، فعندما جاء الامر باقام الصلاة بين القرآن حكمة الصلاة فقال تعالى: "إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَـى عَـنِ الْفَحْشَـآءِ وَالْمُنكَـر"، وفي آية اخرى: "وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي". وعندما أمر عز وجل بالطهارة والتطهر استعدادا للصلاة فانه قد اوضح الحكمة من ذلك قائلا: "يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ .. يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ"، فالهدف الاسمى من عملية التطهر سواء أكان وضوءاً أكان غسلا أم تيمما هو ذات التطهر.
واذا تحدث القرآن عن الزكاة بيـن الحكمة من ورائها ذاكرا انها تطهيراً للذات وتزكية للنفس: "خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُـمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا"، وهكذا الحال بالنسبة الى الحث القرآني على الجهاد بمختلف انواعه، فربما تكون الحكمة منه التمحيص ورفع درجة الانسان المؤمن، او بلوغ احدى الحسنيين، او اقامة العدل وتحرير الشعـوب من سلطان الكفر والجور وما الى ذلك من الحكم والاهداف العديدة.
وفي بعض الاحـيان يصرح القرآن الكريم بمفهوم الحكمة ويشير اليه كما في قوله سبحانه: "ذَلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيكَ رَبّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ".
* التسليم القيمة العليا
ان جميع الاحكام تنتهي عند هذه القيمة الاساسية والعليا ألا وهي قيمة التسليم، التي تمثل الحقيقة الايمانية الكبرى؛ فالاحكام والشرائع والفرائض الالهية وكل ما يتعلق بالطاعة تهدف كلها خلق روح التسليم لله عند الانسان المؤمن. فالتسليم هو روح العبادة، والى ذلك يشير قوله تعالى عن لسان ابراهيم (ع): "وَجَّهْتُ وَجْهِـيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ".
فالانسان الذي يجـد في نفسه روح المعارضة والرفـض امام اللـه تعالى واحكامه واوليائه فهو ليس بمسلم. والله سبحانه وتعالى لايحتاج الى القسم عندما يعكس ويطرح الحقائق في كتابه المجيد، ولكننا نجده رغم ذلك ولعظم وخطر بعض المفاهيم والقيم يطرحها بعـد القسم بنفسه المقدسة كما هو الحال في حقيقـة التسليم التي نحن بصددها فهو عز وجل يقول: "فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنـُونَ حَتـَّى يُحَكِّمُوكَ فِيـمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِـدُوا فِـي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً"، وهذا هو التسليم المطلق.
* الكِبر .. عقبة التسليم.
ان هذه الصفة كامنة في نفوس الكثير منا، وآثارها تظهر في سلوكنا، فهناك الكثير ممن كانوا يقرؤون القرآن وما ان سمع احدهم انه قد ارتقى الى سدة الحكم حتى اطبق القرآن، و وضعه في الرف مخاطبا اياه: "هذا فراق بيني وبينك" .
ان الولاية الحقة التي يشهد لها القول والعمل هي التي تزيل الكبر من النفوس، وتطرد الوساوس الشيطانية منها، وتزكي القلب وتطهره وتفتحه لنور الايمان، إذن، لننبذ التوجهات الشيطانية من نفوسنا، ولنتمسك بحبل الولاية الذي هو حبل الله فأهل البيت (ع) هم سفن النجاة، وتجسيد موالاتهم في اخلاقنا وسلوكنا واعمالنـا نجـاة لنا مـن النار والعـذاب، ففـي يوم القيامة لابد ان يسألنا الله جلت قدرته عن هذه الولاية، والنعمة الكبرى التي ما بعدها من نعمة، كما يشير الى ذلك تعالى في قوله: "ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ".