قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

ذكر الموت يقطع الأمل بسراب الحياة
*يونس الموسوي
قد يجري ذكر الموت على ألسنة الناس، دون أن يشعروا بهذه الحقيقة العظيمة في تجاويف قلوبهم، فاللسان يقول ما يشاء وما يحب، إلا أن القلب هو الذي يحس بالأشياء ويدرك كنه عظمتها وجلالة قدرها، والألسنة قد تنطق بكلمات عظيمة دون أن تفقه سر عظمتها، لذا يتوجب إفراغ القلب من كل ما يلهيه عن فقه تلك الكلمات العظيمة حتى يتسنى له هضمها وإستيعابها.
فالقلب الساهي واللاهي لاينتفع بالنصيحة ولايستجيب لنداء الحق، لأنه مشغول عن حقائق الحياة بالملاهي والشهوات التي تسحبه معها إلى عالم الوهم.. فكيف يخرج من هذا الوهم؟ وكيف يعود إلى رشده؟ وكيف يمكنه الشعور بهذه الحقائق؟
ضرورة هذا السؤال تنبع من حقيقة الموت نفسها والتي لابد ان يلامسها كل انسان إن آجلاً أم عاجلاً، وقد صرح بذلك القرآن الكريم: "كلّ نفس ذائقة الموت"، لذا ينبغي على الانسان الواعي أن يدرك هذه الحقيقة حتى يمكنه التعامل معها بالشكل الذي يجعله من الرابحين في هذه الدنيا وفي الآخرة.
أول خطوة على هذا الطريق؛ إفراغ القلب من الملاهي والشهوات والتوجه بالمشاعر نحو هذه الحقيقة، هو السبيل إلى كشف حقيقة الموت، فكل الحواس البشرية وإن كانت هي في حقيقتها وسائط للمعرفة والتعلم، لكنها في نفس الوقت قد تشغل القلب عن النظر إلى حقائق الكون، وتلهيه عن ذلك بالتوجه إلى المحسوسات.
فالإنسان يحس ويشعر بلذة الشرب والطعام، ويرى جمال الطبيعة والكون، لكنه لايحس بالموت، ولايرى ملك الموت، ولايستمع إلى صوت المحتضر، وليس في مقدوره أن يشاهد ويسمع ما يسمعه المحتضر، إذن كيف السبيل إلى معرفة الموت والقلب مأسور بقيود المادة؟
ولعله هذا ما يفسّر لنا السبب في تأكيد أئمتنا على ذكر الموت وزيارة المقابر والسعي لحمل الجنازة وغيرها من المستحبات المؤكدة في مراسيم التشييع والدفن، فإذا باشر ذكر الموت قلب الإنسان يوشك أن يؤثر فيه وهذه الغاية التي تُرتجى من ذكر الموت، وإلا فإن الإنسان لايذكر الموت من أجل الذكر فقط، بل ليتأثر به ويخشع قلبه لهذه الحقيقة، عند ذلك سيكون هو المستفيد الوحيد من هذا الذكر.. كيف؟
إن إستيعاب الإنسان لحقيقة الموت معناه:
أن هذه الدنيا قصيرة الأمد، وأن أفراحها وأحزانها زائلة، وأن مواردها وأموالها غير باقية، وأنها ليست الحياة التي خلقنا من أجلها، وأنها تكاد تكون جسراً لعالم آخر، هو عالم الآخرة الذي سيكون عيشنا فيه، منازلنا وأموالنا وأفراحنا وأحزاننا دائمية من جنس ذلك العالم، فمن كان سعيداً فهو خالد بسعادته ومن كان شقياً فهو خالد بشقائه.
والطريق إلى كل ذلك يكون أوله ذكر الموت وخشوع القلب لهذه الحقيقة، وأن يقترب الإنسان إلى هذه الحقيقة إلى درجة إنه يكاد يراها، فهي ليست غائبة عن وجوده وعن ذهنه وقلبه، وهو بذلك يذكر أصحابه وأقرانه الذين مضوا قبله فيتذكر موتهم ومثواهم تحت التراب، وكيف كانت صورهم قبل الموت وكيف محا التراب جميل ملامحهم، وبدد التراب أجزاءهم وحطمّ أعضاءهم، وكيف ترملت نساءهم وتيتم أولادهم وضاعت أموالهم وخلت منهم مساجدهم ومجالسهم، وكيف كانت آمالهم بسنين الدنيا، فغدت آمالهم في تراب القبر.
وذكر الموت يقصر الأمل، ويصوب العمل، لأن من كان ذكره الموت، لم يكن طموحه في الدنيا أكثر من يومه الذي هو فيه، فربما كان في الغد من جملة الراحلين من هذه الدنيا، لذا فإنه سيقدم عمل الغد على عمل اليوم، وينشط للآخرة أكثر من نشاطه للدنيا، فالدنيا زائلة راحلة، والآخرة قادمة لامحالة وهي ليست زائلة ولاقصيرة الأجل.
قال النبي الأكرم صلى الله عليه وآله لعبد الله بن عمر: (إذا أصبحت فلاتحدِّث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح وخذ من دنياك لآخرتك ومن حياتك لموتك ومن صحتك لسقمك فإنك يا عبدالله لاتدري ما إسمك غداً).
وإذا كان حال المرء هو ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فماذا سيكون عمله؟
إن من حاله كذلك سيشعر بقرب الموت إلى صدره، لكنه لن يخشى حقيقته، كما يخشاه كثير من الناس، ونتيجة لهذا القرب فإنه سيتعرف على الموت ويكون رفيقه في الحياة، يراه في الصباح والمساء، ويحذره ليس خوفاً منه، بل هو خوف من الله سبحانه وتعالى، حتى لايخطفه الموت خطفه وهو في موضع الريبة والمعصية.
فمن يخشى الموت، يخشى الوقوع في المعصية، لئلا يقابل الله بوجه أسود كئيب لايحر جواباً لما إقترفه من الذنوب في أواخر عمره، فمن يراقب الموت هو في الواقع يراقب أفعاله وتصرفاته أن لا تكون خارجة عن حدود ما أراد الله من الحلال والحرام، وهذه هي الفائدة التي تُرتجى من ذكر الموت، ومن طال أمله في الدنيا أساء العمل وسوَّف التوبة، وكان شغله في الدنيا وولهه فيها، ولم يرغب في الآخرة ولم يعمل لها عملها، وقد حذر الإمام علي عليه السلام من هذه الخصلة ومن إتباع الهوى حيث قال: (إن أشد ما أخاف عليكم خصلتان: إتباع الهوى وطول الأمل فأمّا إتباع الهوى فإنه يعدل عن الحق، وأما طول الأمل فإنه يحبب الدنيا، ثم قال: ألا إن الله تعالى يعطي الدنيا من يحب ويبغض وإذا أحبَّ الله عبداً أعطاه الإيمان إلا إن للدين أبناء وللدنيا أبناء فكونوا من أبناء الدين ولاتكونوا من أبناء الدنيا، ألا إن الدنيا قد ارتحلت مولّية، ألا إن الآخرة قد أتت مقبلة، ألا وإنكم في يوم عمل ليس فيه حساب ألا وإنكم يوشك أن تكونوا في يوم حساب ليس فيه عمل.)
وقال أبو سعيد الخدري: إشترى أسامة بن زيد من زيد بن ثابت وليدة بمائة دينار إلى شهر، فسمعتُ النبي صلى الله عليه وآله يقول: (ألا تعجبون من أسامة المشتري إلى شهر، إن اسامة لطويل الأمل والذي نفسي بيده ما طرفت عيناي إلا ظننت أن شغريّ لايلتقيان حتى يقبض الله روحي ولارفعت طرفي فظننت أني واضعه حتى أقبض، ولالقمت لقمة إلا ظننت أني لا أسُيغها حتى أغص بها من الموت، ثم قال: يا بني آدم إن كنتم تعقلون فعدّوا أنفسكم من الموتى، والذي نفسي بيده إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.) (الترغيب والترهيب، ج4، ص232).
وصورة الإنسان المؤمل نفسه بهذه الدنيا تشبه إلى حد كبير صورة الرجل الذي يركض وراء سراب، فهو يسعى لآماله ويركض باتجاه طموحاته فيلاقي في ذلك الطريق أجله، فهو لم يحصل على الدنيا، ولم يعمل من أجل الآخرة فيعض على أصابعه ندماً وحسرة على ما فرطّ من عمره وهو يركض وراء ذلك السراب.
وكما هو واضح فأن طول الأمل هو نتيجة لجهل الإنسان وحبه للدنيا، فالجهل تابع من عدم تأكده من تحقق آماله فهو يسعى ويناضل من أجل أشياء غير مضمونة التحقق، وهو لايعرف بطبع الدنيا أنها غدارة وتفتك بمحبيها، وتهلكهم في وقت النشوة، ولـمّا ينتبه إلى نفسه وإذا به قد أصيب بمرض الإيدز أو مرض روحي يقوده إلى نار جهنم.
ومن يأنس بالدنيا ولذاتها وشهواتها، لايستطيع مفارقتها ولن يدع قلبه يفكر بما عداها من الموت وعالم الآخرة، فهو يكره الموت ولايريد لقاءه ولاحتى التفكير فيه، لأنه مشغول عنه بالدنيا والأماني الباطلة، وإذا خطر له في بعض الأحوال أمر الموت، أجلَّ وسوفّ العودة إلى طريق الحق.. فقبل أن يسيطر حب الدنيا على قلبك عالجه بذكر الموت.