محاضرة يلقيها.. سَمَاحَةُ المَرجِعِ الدّيني آيةُ اللهِ العُظمى السَيد مُحَمّد تَقِي المُدَرّسِي
بالحكمة و الوحدة نوقف نزيف الدم في بلاد الرافدين
|
*إعداد / بشير عباس
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم اللعين
بسم الله الرحمن الرحيم
"الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ* يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ" البقرة (268-269).
آمنا بالله
صدق الله العلي العظيم
من تقدير الله سبحانه وتعالى لعباده في الدنيا، أن الدنيا دار فتنة وابتلاء، ولأنها دار فتنة وابتلاء فلا بد ان تكون الحقائق فيها غير واضحة المعالم، لأن الامور اذا كانت واضحة جداً لانقضى الابتلاء وانعدمت الفتنة، ولكن ربنا سبحانه وتعالى جعل للانسان موازين وقيماً يستطيع ان يرجع اليها ليعرف الحق من الباطل ويميز الصحيح عن الخطأ، فمن أوتي هذا الميزان فقد أوتي خيراً كثيراً، لماذا؟ لأنه يستطيع أن يلتزم الصراط المستقيم ويبتعد عن السبل المتفرقة التي تبعد الانسان في الدنيا عن السعادة وفي الآخرة عن الجنة، وهذه هي الحكمة.. فالحكمة هي الميزان الذي يملكه الانسان بفضل الله لكي يعرف الحق ويميزه عن الباطل ويعرف الصحيح ويميزه عن الخطأ ويعرف الصراط المستقيم ويميزه عن السبل المتفرقة، هذه هي الحكمة التي يقول عنها ربنا: "يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ".
*الحكمة.. بوصلة التقدم
إن الذي يعرف هذه الحقيقة، و يصل الى مستوى معرفة هذا الامر هم اولوا الألباب الذين يصلون الى عمق الحقائق ولا يقتصرون على المظاهر، والمجتمع الحكيم الذي يلتزم بالحكمة سوف يكون سعيدا وسوف لن تهجم عليه اللوابس ويكون هذا بعيدا عن المشاكل الحادة، أما المجتمع الذي يفقد الحكمة فإنه سوف ينهار وحسب المثل العامي المشهور: (حنطته تأكل شعيره) يعني ليس لديه تدبير في حياته ولا يعرف كيف يستفيد من امكاناته ولا يعرف كيف يدرأ الاخطار عن نفسه ولا يعرف كيف يتوصل الى اهدافه وتطلعاته، فهذا المجتمع محكوم عليه بالشقاء وربما بالفناء.
كانت قبلنا أمم، ونحن لسنا الوحيدين في هذا العالم، فكانت هنالك مجتمعات كثيرة مثل الفراعنة، حكموا مصر مئات السنين، كما حكم نمرود بابل وعائلته حكمت هذه المنطقة وقد بنوا حضارة كبيرة في زمانهم وهناك أقوام مثل عاد وثمود واصحاب الأيكة وقوم لوط، فأين ذهبوا؟ ولماذا دُمروا؟ ولماذا قال ربنا سبحانه وتعالى عنهم: "فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً"، "فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا" لماذا دمدم عليهم؟ هذه آثارهم.. فاذا ذهبت الى الجيزة في مصر انظر الى الإهرامات وهي معالم أثرية ضخمة أبقى الله عليها لنا لنتخذ منها عبرة، وكذلك قلاع بعلبك، وجنان بابل، والآثار المتبقية في أنحاء الأرض كلها تدل على حضارات سادت ولكنها بادت، لماذا؟ لأنها لم تعرف كيف تتصرف، فانحرفت عن الطريق ولم تؤتَ الحكمة.
ونحن اليوم في مجتمعنا الاسلامي وأنّى نظرت في هذا المجتمع رأيت هناك مشاكل، ففي جنوب اليمن حراك وفي صعدة حرب، وفي جنوب السودان و دارفور مشاكل، وعندما تذهب الى باكستان فتجد يوميا انفجار وقتلى من الابرياء وليس في صفوف المحاربين، آخرها ما حصل في بيشاور قبل أيام عندما حصد أرواح اكثر من مئة انسان، وكذلك تجد في مناطق اخرى أن هذا العالم الاسلامي ممزق تمزيقاً، ففي الصومال الوضع لا يمكن أن يبقى هكذا وقد تحولت الصومال الى مجاميع يقتل بعضهم بعضاً، والعالم يتفرج عليهم.. فلماذا نحن المسلمون وصلنا الى هذه الهوة وربنا سبحانه وتعالى قال: "إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ"، وهذه الأمة التي قال عنها ربنا: "خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" أين اصبحت هذه الأمة؟ ولماذا اليوم باتت مضحكة وإلعوبة بيد الآخرين لماذا؟ وهذا العراق بلد الرافدين والنفط والأئمة المعصومين وبلد التاريخ الحضاري التليد، لكن تجد في العراق الحالة ذاتها.. إرهاب ومشاكل وتخلف لماذا؟ لأننا فقدنا الحكمة، ولأن الأمة فقدت هذه الجملة التي يقول عنها ربنا: "يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ"، فالانسان قد يملك عيناً تبصر وأذناً تسمع ويداً تبطش، ورجلاً تسعى ويملك كل الأعضاء سالمة لكن اذا لا يملك المخ أو العقل فأن كل هذه الاعضاء لايمكن ان تنفعه، وكذلك البلد يمكن ان يملك النفط والخيرات والزراعة ويملك الأشداء من الرجال والشجاعة وكل شيء لكن اذا لم يكن يملك الحكمة فإنه كمن لا يملك شيئاً.
أمامنا كلام الإمام الصادق (ع): (إن لم يكن عقل المرء خير ما فيه كان هلاكه بأيسر ما فيه)، تصور سيارة جديدة معبئة بالبنزين وكل شيء فيها جيد والطريق معبدة لها، لكن اذا كان مقود السيارة معطّل فانها قطعاً ستتجه نحو الاصطدام، فالعقل بمنزلة مقود السيارة بالنسبة للأمة، فإن لم يكن تمتلك المقود فانها تتجه الى الهلاك والدمار.
*لا للتوظيف السياسي للإرهاب
رغم التفجيرات الأخيرة التي أدمت قلوبنا ولم تدم فقط شبابنا، ورغم الدماء التي اريقت في بغداد وكربلاء ويومياً تراق في العراق، لكن بعض الناس يحاولون توظيف هذه التفجيرات سياسياً، ونحن على أبواب الإنتخابات، هنالك أناس ميتون وأشلاء وآخرون مدمرون واناس في المستشفيات، ثم يأتي هنالك من يفكر كيف يمكن أن يستفيد من هذه المسألة للاغراض الانتخابية!
أيها الأخوة.. كونوا حكماء.. إن العدو لا يستهدف شخصاً معيناً أو حزباً واحداً ولا جماعة معينة، إنما يستهدف الجميع، فهو عدوكم جميعاً، وحدوا صفوفكم، لذا تلاحظون كلما كانت هنالك خلافات بين السياسيين، كلما وقعت هذه المجازر، وكأن الله يريد أن ينبهنا ويقول: يا بشر ويا مسلمين ويا أيها الناس.. يا من الذين دماؤكم واحدة، وحدوا صفوفكم.. انبذوا الخلافات عنكم، ان الانتخابات حق والدخول فيها حق والصراع والخلاف حق، ولكن يجب أن تكون هناك خطوط حمراء لا نتجاوزها ولانستفيد منها استفادة من دون تفكير جدي.
أيها الأخوة.. ان الذي حدث لم يحدث لأن شخصاً واحداً أهمل ولم ينفذ التعليمات من هذا المسؤول أو ذاك، كلا يا أخي، إنما القضية هي ان الأمة كجسد واحد فاذا ضعف ضعفت كل أجزاؤه، ولكي أوضح الفكرة لأخواني المؤمنين هنا وهناك، أقول:
تصور الامة مثل جسم الإنسان الواحد، وهذا بدوره يكبر ويصبح أمة، والأمة تختصر وتصير انسان واحد، والانسان الواحد عندما يكون مريضاً فهذا المرض يؤثر على عينه وعلى سمعه ورجله ويده وعلى كل أعضاء جسمه، لماذا؟ لأن الضعف اذا جاء ينتشر في كل مكان.
ونحن في العراق لابد لنا أن ندفع المرض الذي بدأ يؤثر على كل أجزاء كياننا، فهو يؤثر على الأمن وعلى الماء وعلى الزراعة وعلى الاقتصاد وعلى كل شيء، فتصور أن موظفاً جالساً في أقصى العراق - وهو موظف بريد مثلاً - لكن اذا قصر فإن تقصيره يؤثر على الجميع، فلا بد أن نفكر في بناء بلدنا وبناء شعبنا ودولتنا على أسس رصينة حتى لا تحدث هذه الأمور، فالقضية ليس مربتطة بالجهات الأمنية فقط، وأقولها بكل صراحة وأنا لا أدافع عن أنسان مقصّر، لكن من الذي لا يقصر؟ لذا لا يأتي شخص مقصّر في مكان ما، ويلقي اللوم على شخص آخر، يجب أن نتوحد وندرس ما هي أسباب الضعف، وأنا أقول لكم بصراحة: إن أسباب الضعف ليست خاصة بجانب دون آخر، إن وزارة الداخلية و الدفاع والأمن والوزارات الخدمية ومجلس النواب ومجالس المحافظات والنواب والمدراء العامين، هؤلاء كلهم مسؤولون عما حدث في بغداد، لماذا؟ لأن البلد عندما يكون ضعيفاً فإنه يكون ضعيفاً في كل شيء، ولابد على الجميع أن يراجعوا حساباتهم، وحينما تكون هناك مشاكل في البلد فلا يجب أن أحملها على جهة دون أخرى، فكلنا مسؤولون.. (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)، والشعب أيضاً مسؤول لأنه يجب عليه أن ينزل للساحة ويصحح الخطأ ويفكر من الذي ينتخبه وأن يفكر في عقله وليس في بطنه ولا يفكر في مصالحه وأن يفكر في مصالح الأمة ولا يفكر في شخصه فقط أو في حزبه وجماعته ولا منطقته فقط، فهذا البلد بلد واحد، لكننا مع ذلك نرى أن البعض لا يزالون يفكرون في مصير كركوك..
* انتخبوا الكفوء والصالح معاً
وأنا أقول: أيها الاخوة في شمال العراق.. أيها الأخوة الكُرد، انتم والحمد لله قد أنعم الله عليكم بعد تلك الفترة العصيبة التي عشتموها في هذا البلد، بكل هذه النعم، حاولوا أن تستفيدوا من هذه النعم، ولا تدخلوا أنفسكم في صراعات جديدة مع اخوانكم العرب والشيعة والسنة، فلا فرق بين التركمان وغيرهم، فهؤلاء هم منكم وإليكم، والبلد اذا اختلف فما فائدة كركوك ان تكون لك أو لغيرك؟ فحافطوا على وحدتكم و وحدة هذا البلد، فما بال قانون الانتخابات يدخل عدة مرات في البرلمان ويخرج منه، وذلك لعدة مرات، فما السبب؟ والى متى؟ ألم يقل لكم مراجعكم الكرام الكبار أجعلوها قائمة مفتوحة؟ حتى كل واحد يفتح عينه وينتخب الذي يريده بدلاً من أن يكون مجبور بأن ينتخب شخصاً لايريده وهو موجود في القائمة، فهنالك شخص صالح متدين نريده ولكن وضعوا معه شخصاً آخر نحن لا نريده هذا في حال اذا كانت القائمة مغلقة. كما يذهب الواحد منّا الى بائع الفاكهة وينتقي الجيد من الرديء، ولا يأخذ بشكل عشوائي، ولا يقنع بالطبقة العليا من سلة الفاكهة بينما في الأسفل هنالك الفاكهة الفاسدة، فهذا هو الغشّ.
من هنا يجب أن يدخل البرلمان الانسان المؤمن والمجاهد والرجل المخلص والخبير والمتفاني في سبيل البلد، فهذا ينفع الجميع وليس نفسه أو حزبه فقط، والنائب في البرلمان ليس نائب عن حزب بل هو نائب عن الشعب العراقي كله، ولا بد أن تكون عنده هذه الأريحية والعاطفة والإيمان بأن يدافع عن البلد والناس كلهم وليس عن جماعة دون أخرى لأن مصير البلد كله بيده، نعم.. اذا خرج من البرلمان وجلس في محفله الحزبي أو التنظيمي أو غيره فهو يحكم بحيثيات خاصة، أما هو جالس في بيت الشعب وهو بيت للجميع يجب عليه أن يتعامل بشكل آخر.
انتخبوا الأفاضل والطيبين.. انتخبوا الانسان الذي يتحلّى بالاخلاص والجدارة لأن الإخلاص وحده لا يكفي والجدارة وحدها لا تكفي ايضاً، فربما يكون هنالك شخص كفوء ولكنه خائن والعياذ بالله، والعكس كذلك اذا كان شخص مؤمناً صالحاً ولكن ليس له كفاءة، فاذا تعرف شخصاً صالحاً ذا كفاءة لكنه ليس بطبيباً فهل يجوز ان تأخذ اليه ابنك ليعالجه ؟ طبعاً كلا، فلا بد ان تزدوج الكفاءة بالأمانة والأمانة بالكفاءة حتى نتقدم.
اذا كل انسان في العراق يشعر بأن هناك تطور إيجابي في حياته فإن الجميع سيحاول أن يسهر في خدمة البلد من ضابط وجندي وحرس وطني وغيرهم وكلهم ضمن هذه المجموعة سيكونون في خدمة هذا البلد، ولن تحدث كل هذه الخروقات الأمنية التي تكشف عن نقص كبير في مجتمعنا وقوانيننا وثقافتنا وطريقة التعامل مع بعضنا البعض، فيجب أن نعيد النظر في كل هذا.
|
|