في الطريق لاكتساب المعارف الاسلامية..
التسلّح بالمقاييس الصحيحة قبل مواجهة أفكار الشرق والغرب
|
*عبد الخالق محمد علي
من حق المرء أن يتساءل عن السر وراء ضرورة الاجتهاد في دراسة العرفان الاسلامي؟
ان الانسان المسلم كثيرا ما يكون عرضة للأمواج الفكرية غير النزيهة التي تعمل من أجل سلب الهوية الدينية من شخصية الفرد المؤمن، ومالم يحصّن الانسان المؤمن نفسه وسلوكه فان ذلك يؤدي الى اصابته في ثقافته ومعتقداته الدينية إصابات بالغة الخطورة.
صحيح ان الناس يولدون على الفطرة، ولكن البعض ينحرف في وسط الطريق عن الجادة المستقيمة، ولا يكون ذلك بالضرورة بفعل الوراثة او التربية، بل ثَمّ سبب آخر لا يقل عن سابقيه تأثيراً على سلوكه وثقافته وآدابه، ألا وهو ما يدعوه بعض الفلاسفة بـ(أصنام السوق) أي ما يتوارد عليه من افكار بسبب تعرضه للموجات الثقافية الغريبة على طبيعته وتكوينه.
فالبعض من المسلمين الذين انجرف بعضهم نحو الفلسفة الغربية او الشرقية لم ينحرفوا بداعي التربية السيئة، او بسبب انعدام الاهتمام العائلي بهم، فالآباء في مجتمعاتنا المسلمة غالبا ما يكونون ذوي عاطفة خاصة تجاه أبنائهم تجعلهم يقومون بواجب التوجيه والتربية، الا ان الاجيال الجديدة انفتحت بلا حدود وبلا بصيرة عاصمة أمام التيارات الفكرية الزاحفة فأضحت في مهب الرياح العاتية السامّة التي تنفثها الثقافة اللادينية في الشرق والغرب، مما أثرت عليها وأدت بها في نهاية المطاف الى الفسق والانحراف وحتى الى الالحاد والكفر أحياناً.
ان الطفل ينمو في بلاده المسلمة مؤمنا، لكن حينما ينخرط في سلك المدارس الحديثة فإن اول ما يعتريه هو الشك بما حمله من ايمان بريء معه الى المدرسة، لان المناهج الدراسية المستوردة لا تهدف في كثير من مناهجها الا الى مسخ هوية ابنائنا المؤمنين، ثم سرعان ما يتحول هذا الشك مع التدرج التعليمي الى طرح الشبهات والمغالطات، ومن ثم ينتهي الامر الى الانحراف والسقوط في هاوية الكفر والالحاد.
ونحن بدورنا قد نتعرض لهذه الموجات. فاليوم قد تحوطنا ثقافة اسلامية ولكن هل نستطيع ضمان استمرار هذه الاحاطة الثقافية؟ إن من المحتمل ان تتغير الظروف، وان تنعدم من حولنا مصادر الثقافة الدينية التي نستلهم منها ؛ وأن نعيش مستقبلاً ظروفا فكرية معاكسة، وذلك بالاقامة في بلاد غريبة عنا وعن افكارنا وآدابنا واخلاقنا، أو وصول الثقافة الى داخل غرفنا عبر الفضائيات والانترنت، وهنا تتصاعد نسبة احتمال انسياقنا باتجاه الفساد والثقافة الملحدة ؛ إذا كنّا منزوعي السلاح، وإذ ذاك كيف سندافع عن انفسنا ؟
البعض يقول أنا مؤمن وسوف أموت مؤمناً، ولكننا نتساءل بتفاؤل عن الضمانة في ذلك؟ وهل يضمن الداخل في مستعمرة المجذومين ان يخرج بنفسه سليما معافى مالم يكن قد حصن بدنه بالمضادات الحيوية اللازمة؟! كذلك الامر تماماً بالنسبة للروح والقلب وغذائهما من الفكر والثقافة والمعرفة.
هذا كله بغض النظر عن ان ما يدعى بمصادر الثقافة الاسلامية لم تعد اليوم مصادر ثقافية دينية خالصة تماماً. فهناك الكثير من الكتب والبحوث التي دوّنها كتاب مسلمون الا انك لا تستطيع أن تضمن بشكل مطلق سلامة كل الافكار الواردة فيها، فهناك أحياناً كثيرة خلط بيـن الافكار الصحيحة والثقافات الدخيلة أو الآراء الشخصية، وللتمييز بين كل ذلك لابـد للمؤمن أن يمتلك المقياس الذي يعينه على تحديد الخطأ عن الصواب، ويقيه عن السقوط في المزالق الفكرية والانحرافات المعرفية.
وبامتلاك ذلك المقياس فإن بإمكان الفرد المسلم ان يخوض ما شاء له ان يخوض في المعارف الاسلامية وغير الاسلامية، مادام يتمتع بما يعصمه عن الانحراف والتيه. إذ الأمر ليس مرهوناً بمسألة فقهية فرعية مثلاً، حيث قد يخطأ الواحد منا في واجب من واجبات صلاته وبامكانه ان يعالجه بقضاء او احتياط، او يخل بواجب الصوم فيقدم الكفارة - مثلاً -. انما الأمر يتعلق بالايمان بمصدر الوجود وخالقه وقد حذَّر الله في مناسبات لا تحصى عن الشرك و وصفه بأنه ظلم عظيم، وان الذنوب جميعاً قابلة للغفران سوى الشرك والكفر به، وان تفاصيل العقاب عليه لا قدرة للمخلوق الضعيف على تحملها ؛ بل ولا تصورها.
ومن هذا المنطلق بالذات، نؤكد بأن الاخوة المؤمنين مدعوون بشكل مؤكد لدراسة (العرفان الاسلامي) الذي يمثل بطبيعة الحال مفتاحاً جديراً لبحوث اعمق واشمل واكمل.
والضرورة الكامنة وراء هذه المتابعة هي ان الافكار الانتقائية والالتقاطية التي كانت منتشرة في زمن أئمة اهل البيت (عليهم السلام) وتستفحل في يومنا هذا، لابد لنا من مواجهتها والوقوف منها موقف المتمكن من دحضها بألمع الحجج وأقوى الادلة.
ولطالما كان أئمتنا (عليهم السلام) يُسألون عن الافكار الإلحادية التي كانت منتشرة على عهدهم، فكانوا يؤكدون على ضرورة امتلاك المقياس السليم في مواجهة تلك الافكار. والمقياس هو معرفة أين هي معاقل العلم وأبواب الرحمة وضياء الامر. يقول الامام جعفر الصادق (عليه السلام): (إن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أنال في الناس وأنال، وإنّا أهل البيت معاقل العلم وأبواب الحكم وضياء الامر). فالرسول الأكرم والائمة من أهل بيته (عليهم السلام) هم معاقل العلم وأبواب الحكم وضياء الامر، ومن ثم هم المقياس السليم الذي على المؤمن الرجوع اليه. فالانسان المؤمن عليه ان يتمتع ويتزود أولا بالمقاييس السليمة المستنبطة من الحجة الالهية، ثم لا ضير عليه ان ينفتح على الثقافات الاخرى لدراستها والرد على الفاسد والملحد منها. ومن دون التزود والتسلح بالمقاييس المشار اليها لا يصح له الانفتاح على الثقافات الاخرى، إذ سيكون واقعه مدعاة لمزيد من الشك والضياع والانحراف.
|
|