رصيدك في الدنيا ورصيدك في الآخرة
|
*طاهر القزويني
هناك آية في القرآن الكريم تدعونا إلى أن ننظر إلى رصيد حسابنا في الآخرة وتقول: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" (الحشر/ 18) لكن من يستطيع أن يعرف رصيده في الآخرة؟ ومن الذي يعرف بالضبط، أ هو من أهل الجنة أم من أهل الجحيم؟ وكيف سيعرف أن حسناته أو سيئاته أكثر وزناً؟
لا أحد يستطيع أن يعرف بالضبط ميزان عمله في الآخرة، لكنه يستطيع أن يضبط هذا الميزان في عالم الدنيا حتى يذهب إلى ذلك العالم وهو مطمئن النفس.
وهذه العملية تكون عن طريق محاسبة النفس في كل يوم، وقد تحدث الإمام علي ((عليه السلام)) عن هذه العملية وقال انها تتكون من مرحلتين: الأولى: محاسبة النفس، وقد وردت في الحديث الشريف (قيّدوا أنفسكم بالمحاسبة واملكوها بالمخالفة).
فالدول تخوف المتطاولين على القانون بقوة الشرطة والجيش لعل ذلك يردعهم عن مخالفة القوانين، لذا فإن استشعار الإنسان لخطر المحاسبة تردعه عن القيام ببعض الأفعال، كما أن بعض الناس لاتردعهم القيم والمبادئ عن ارتكاب الجرائم ولكن الخوف من الاعتقال هو الذي يردعهم عن ذلك.
فالذي يحاسب نفسه هو أقدر على مخالفة أهوائها الضالة والحساب يكون على الأعمال كما قال الإمام علي (عليه السلام) (حاسبوا أنفسكم بأعمالها، وطالبوها بأداء الفروض عليها والأخذ من فنائها لبقائها وتزودوا وتأهبوا قبل أن تبعثوا).
فمن الذي يتزود؟ ومن الذي يتأهب؟
للأسف هناك أناس تنشأ لديهم تصورات منحرفة عن حساباتهم الأخروية، فهم يتبعون أهواءهم ويفعلون كل ما تشتهي أنفسهم، وبعد هذا كله يظنون أن لديهم مكانة عندالله ورصيدهم مليء بالمحاسن والمكارم، وقد وصف الإمام علي (عليه السلام) هؤلاء بالحمقى وقال في حديثه: (أكيّس الكيسين من حاسب نفسه وعمل لما بعد الموت، وأحمق الحمقاء من اتبع هواه، وتمنّى على الله الأماني) (بحارالانوار/ ج70، ص70).
لابد أن هذا الشخص يخدع نفسه، لأنه يعلم ما حرمه الله وما نهى عنه من المنكرات ثم يعملها وبعد ذلك يظن أن له حظاً في الآخرة وفق تصورات خاطئة، فهذا حظه سيء في الدنيا والآخرة.
لكن هناك أشخاصاً من حقهم أن يظنوا الخير بأنفسهم وهم الذين ذكرهم الإمام السجاد (عليه السلام) بقوله: (ابن آدم لاتزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك، وما كانت المحاسبة من همّك) (بحارالانوار/ ج78، ص137)، فمن يريد أن يعرف حظه في الآخرة يستطيع أن يعرف ذلك إذا كان من الذين يحاسبون أنفسهم على الأعمال التي يقومون بها.
غير إننا تعلمنا كيف نحاسب الآخرين على أخطائهم ونؤنبهم عليها ونقول: إذا لم أوبخه على عمله السيء فإنه سيكرر العمل، لكننا نغفل عن أنفسنا وأننا أحق بالمحاسبة من غيرنا كما قال الإمام علي (عليه السلام): (حاسب نفسك لنفسك فإن غيرها من الأنفس لها حسيب غيرك).
وإذا كنت في دائرة العمل، فإنك ستحاول أن تؤدي ما يطلب منك بأحسن صورة، حتى لاتتعرض لمحاسبة المسؤول أو المدير، وإذا حصل أن عاتبك المسؤول على خطأ لم تفعله، ستثور بوجهه وتدافع بكل قوة عن العمل الذي قمت به لأنك مطمئن من عدم مخالفتك للقوانين، ويمكن تسمية المنهج الذي اتبعته في هذه الحالة هو (محاسبة النفس قبل محاسبة الآخرين).
والذين يتبعون هذا المنهج موفقون في جميع أعمالهم، ذلك أنهم يتحاشون الوقوع في الخطأ، ويمنعون أنفسهم عن مخالفة التشريعات حتى لايتعرضون لمحاسبة الآخرين، ونحن أحوج إلى تطبيق هذا المنهج بالنسبة إلى أعمالنا المرتبطة بحياتنا الأخروية، فإذا كان الخطأ الذي ترتكبه في الدائرة أو في المعمل أو في السوق يعرضك إلى المحاسبة والانتقاد لمدة دقيقة أو 15 دقيقة أمام الاخرين، فإن المواقف التي سيحاسب فيها الإنسان يوم القيامة هي أكثر من هذا بكثير، يتحدث عنها الإمام الصادق (عليه السلام): (.. فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، فإن أمكنة القيامة خمسون موقفاً، كل موقف مقام ألف سنة،)! ثم تلا هذه الآية: "فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ" (المعارج/ 4).
ومن مواصفات الإنسان المؤمن أنه يحاسب نفسه في اليوم والليلة، وقد أوضح ذلك الإمام الكاظم (عليه السلام) الذي قال: (ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل خيراً استزاد الله منه وحمد الله عليه، وإن عمل شراً استغفر الله منه وتاب إليه). (بحارالانوار/ ج70، ص72)، وقد ورد في الأحاديث الشريفة أن يخصص المرء ساعة من يومه لمحاسبة نفسه على الأعمال التي قام بها، وأن تكون هذه الساعة هي ساعة صفاء وخلوة، وأفضل تلك الأوقات هو عندما يأوي المرء إلى فراشه.
كيف يحاسب الرجل نفسه؟ سألوا هذا السؤال الى الإمام علي بن أبي طالب صلوات الله عليه فأجابهم بقوله: (إذا أصبح ثم أمسى رجع إلى نفسه وقال: يا نفس! إن هذا يوم مضى عليك لايعود إليك أبداً، والله سائلك عنه فيما أفنيته، فما الذي عملت فيه؟ أذكرت الله أم حمدتيه؟ أقضيت حق أخ مؤمن؟ أنفّست عنه كربته؟ أحفظته بظهر الغيب في أهله وولده؟ أحفظته بعد الموت في مخلّفيه؟ أكففت عن غيبة أخ مؤمن بفضل جاهك؟ وأعنت مسلماً؟ ما الذي صنعت فيه؟ فيذكر ما كان منه، فإن ذكر انه جرى منه خيراً حمد الله عزوجل وكبره على توفيقه وإن ذكر معصية أو تقصيراً استغفر الله عزوجل وعزم على ترك معاودته..) (بحارالانوار/ ج70، ص70)، وفي حديث آخر لرسول الله صلى الله عليه وآله وهو يضيف إلى تلك الأمور أن يعرف الرجل من أين مطعمه ومن أين مشربه ومن أين ملبسه، أمن حلّ ذلك أم من حرام؟
إذن، لابد لنا أن نعرف أن لمحاسبة النفس آثاراً ونتائج ايجابية تحصل لدى الفرد ومنها:
1- يأمن المداهنة، لأن البعض يسترسل في ارتكاب الذنوب بسبب التبريرات الشيطانية والتي تجعله يظن أن ما يفعله مباحاً فتحدث مداهنة بين النفس وبين ارتكاب الإثم.
2- تقل عيوبه، ولاشك انه في كل فرد هناك عيوب ظاهرة وباطنة، ومن يحاسب نفسه سيتعرف على تلك العيوب ومن ثم سيسعى إلى استئصالها.
3- يأمن الرهبة، فمن يحاسب نفسه في الدنيا، أمن من الرهبة في عالم الآخرة.
4- يسعد ويربح: والسعادة والربح على المستويات كافة للدنيا والآخرة، لأن الذي يكتشف عيوبه سيساعد نفسه على الارتقاء بها إلى أعلى المستويات المادية والمعنوية.
|
|