النظام البرلماني وديمقراطية الأمر الواقع
|
لطيف القصاب(*)
من شارك في كتابة الدستور العراقي او عاصر عن كثب الظروف التي كتب فيها هذا الدستور، يتذكر جيدا قضية تفضيل النظام البرلماني على نظيره الرئاسي اعتمادا على رؤى وتصورات تقدمتها مغالطة تفيد بان النظام الرئاسي هو رديف النظام الدكتاتوري، وعبثا ذهبت الصيحات التي حاولت فك الارتباط بين ما هو رئاسي وما هو دكتاتوري، ولم يشفع القول حينذاك ان نظام الولايات المتحدة وهي الراعية لعهد الديمقراطية العراقية الجديد هو في الحقيقة والواقع نظام رئاسي وهو في ذات الوقت ابعد ما يكون عن الدكتاتورية، على الأقل إذا أخذنا بنظر (القياس) نظام صدام الذي اريد له ان يبدو في وقت من الاوقات نظاما رئاسيا أكثر منه نظاما دكتاتوريا.
المهم إن السجال المصطنع بين أنصار النظامين الرئاسي والبرلماني انتهى إلى إقرار الأخير الذي ينطوي على حسنات لا تنكر منها الفصل بين السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، وكبح روح التسلط الحكومي، وغير ذلك مما جاء في بعض الحجج التي ساقها أنصار النظام البرلماني في حينها.
واليوم وبعد مضي أكثر من خمسة أشهر على إجراءات انتخابات 2009م ما يزال العراقيون يعيشون مرارة تعيد إلى الأذهان مشهد ترقب تشكيل حكومة ما بعد انتخابات عام 2005م، وما يزال العراق محكوما بحكومة فشل القاموس السياسي العراقي حتى الآن في الإتيان لها بتوصيف دقيق تستريح له النفس ولا تطاله الشبهات والوساوس، فبين من يقول إنها حكومة تصريف أعمال ويستشهد لذلك بالكثير من الحجج والقرائن على خصومه، وبين من ينفي إنها حكومة تصريف أعمال ولا تعوزه كمخالفيه الكثير من الحجج والقرائن في دعم رأيه ودحض أقوال مخالفيه.
ونتيجة لهذا الجدل العقيم يتكرر مشهد العجز الجماهيري أمام (ديمقراطية) الأمر الواقع التي جعلت من الشعب كيانا سلبيا ليس له إلا أن يخطو خطوة واحدة باتجاه صناديق الاقتراع ثم يصاب بعد ذلك بحالة من الشلل مدتها أربع سنوات أو أكثر في انتظار أن يخطو خطوة أخرى لا يعرف إلى أين بالضبط، اذ ان نتيجة اختيار الحكام يحددها النواب المنتخبون او بعضهم وليس سائر المنتخبين.
ان معايشة تجربتين مريرتين قبل إنتاج حكومة غير واضحة المعالم وتنطوي على احتمالات إرباك الحياتين السياسية والاقتصادية للبلاد وتوفير بيئة لإحداث فراغات أمنية خطيرة، ويتهم رئيسها في كل مرة بكونه رئيس وزراء متسلط، ان هذه المعايشة تستدعي من جميع الساسة اجراء مراجعة موضوعية بشان طبيعة النظام السياسي الحاكم، لاسيما أن وصف النظام العراقي الحالي بكونه نظاما برلمانيا صرفا لا يصمد مع حقيقة واقعية تتمثل في تعطيل هذا البرلمان المنتخب مع الغالبية العظمى من نوابه منذ شهور. وغاية ما يستطيعه بعض البرلمانيين (المستقلين) هو التهديد بانتفاضة سياسية لم يحن وقتها بعد، ولا يعلم احد متى تحين !.
إن الحكومة العراقية في طور التشكيل لابد أن تشهد النور في غضون شهر على حد تمنيات المتفائلين أو أكثر من شهر مثلما يراهن غيرهم، لكن هذا السقف الزمني المطلوب لإنتاج الحكومة الموعودة سواء أكان طويلا ام اقل طولا لا يمكن له أن يحجب حقيقة أن استهلاك كل يوم بل كل ساعة قبل الاتفاق على تشكيل (حكومة) يعني مزيدا من الإرباك والقلق والجمود على المستوى الشعبي والرسمي.
إلى ذلك فان تأخير تشكيل الحكومة المتوقع في كل دورة برلمانية جديدة يحتم على الهيئة الانتخابية التي يراد لها أن تخطو خطوة سياسية كل أربع سنوات أو أكثر ثم لا تعلم بالتحديد ما هي خطوتها التالية يتحتم عليها أن تتبنى طرحا ديمقراطيا لقيادة البلاد يؤمن لها عدم الوقوع في فخاخ التضليل والتعطيل والتهميش.
إن من حسنات النظام الرئاسي الديمقراطي المعتم عليها انه يدين بمبدأ فصل السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية تماما كصنوه البرلماني، وانه يمنح للناخبين سلطة اختيار رئيس للبلاد تحدده الملايين منهم على خلفية مصلحة عامة وليس إيكال الأمر إلى أهواء ورغبات وأهواء (أفراد) هم رؤساء الكتل الفائزة. وثمة حسنة لا تقل أهمية عن سابقتها وهي إن الشعب وان كان يخطو خطوة سياسية كل حين من الزمن كما هو الحال في النظام البرلماني (بنسخته العراقية الفريدة) إلا انه سيعلم أين يضع قدمه في خطوته التالية حينما يقرر الابقاء على الرئيس او عزله. وأخيرا وليس آخرا فان رئاسة الدول تحدد بدورتين اثنتين في الأكثر إذا ما نجح الرئيس في كسب ود شعبه مجددا في حين إن رئيس الوزراء في النظام البرلماني ليس محكوما بعدد معين من الدورات فقد يبقى رئيسا حتى الموت كما هو الحال في أسوء الأنظمة الدكتاتورية.
(* ) مركز المستقبل للدراسات والبحوث
|
|