نحن في الحياة الدنيا حلقة، قبلها كانت حلقات، وبعدها ستكون حلقات؛ إنها سلسلة الوجود البشري منذ آدم وحتى قيام الساعة.
فماذا نفعل تجاه آبائنا وأمهاتنا، مع الأخذ بنظر الاعبار اننا سنكون فيما بعد أباً أو أماً؟
جاء التأكيد في القرآن الكريم على ضرورة ربط هذه الحلقات البشرية وجعلها سلسلة واحدة في الحياة تكون جديرة بان تقوم بأهم وأعظم دور للانسان في حياته وهو “العبادة”، وعندما يقرن القرآن الكريم بين عبادة الله والإحسان الى الوالدين، نعرف مدى أهمية ومحورية العلاقات الأسرية.
يقول تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ}
بمعنى انه اذا كانت العبادة لله –تعالى- فان الإحسان للوالدين، وربما وجود حرف العطف في هذه الآية الكريمة (الواو)؛ {و بالوالدين احسانا}، تحمل دلالة عميقة في منزلة الوالدين، فقد جاء الإحسان الى الوالدين مقروناً بالعبودية لله، فاذا أجهد الانسان نفسه في عبادة الله بأحسن ما يكون، وكان مسيئاً الى والديه، فلن تنفعه هذه العبادة عند الله –تعالى- لانه خالف القضاء الإلهي.
-
العلاقة المادية هل تكون تخريجة للبعض؟!
من الخطأ الفاحش أن يبني المرء علاقته بوالديه على اساس الربح والخسارة، وعلى اساس التفكير النفعي، بل عليه التفكير بأن أمه قد حملته وهناً على وهن، وأن والديه هما الوسيلة التي جاء عبرهما الى الدنيا، ولولاهما لما سنحت له الفرصة في دخول جنان الله الأبدية.
البعض يتصور أن بالامكان شراء ثلاثين شهراً من عناء الحمل وأهوال وآلام الولادة، ثم فترة الرضاعة، وما تعطيه الأم من روحها ودمها ومشاعرها، كل ذلك؛ يشتريه ببضعة دراهم معدودة، حتى وإن كان على شكل مسكن جميل، او اثاث، او اموال، وأي شيء مادي يوفر لها الراحة والرخاء، أما هو فانه يذهب الى حال سبيله وحياته الخاصة مع زوجته وأولاده، وربما يقرر البعض بإلقاء الأم اذا كانت كبيرة في السنّ، في دور العجزة، حيث تنفضل هذه الأم عن الحياة العائلية بشكل كامل وتكون أشبه بجزيرة بعيدة عن الناس والأهل.
إن المنطق والوجدان يدعوان الابناء أن يهجروا الفكرة النفعية التي تتنافى مع ما حصل عليه من الأم والأب ايضاً في مرحلة طفولتهم، ولذا يدعو القرآن الكريم الى قيمة الإحسان للوالدين كونه الرد الأمثل للجميل.
-
الأب خلاصة تاريخ الأسرة
يمثل الأب في الأسرة خلاصة تاريخها، وايضاً تطلعاتها، فهو ابن الماضي، كما هو ابن الحاضر والمستقبل، فهو بتجاربه وخبراته يصنع الحاضر ويضمن المستقبل، ولذا قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “رأي الشيخ أحبّ إليّ من جَلد”، لأن الشيخ (الأب) يختصر التاريخ والتطلعات والتجارب النافعة لانبائه وحفدته، فقد تنقذ تجربة واحدة، الأسرة أو احد افرادها من ورطة كبيرة او مصيبة في انفسهم او اموالهم.
من هنا؛ نعرف الاذكياء والحكماء من الابناء الذين يحتفظون بالعلاقة الايجابية بينهم وبين آبائهم، ولا يجربون قطع العلاقة بين الجيل السابق وجيلهم مهما كانت الاسباب، لان –ببساطة- عاقبة القطيعة تنعكس سريعاً على الابن نفسه، فالابن الذي يقطع علاقته بأبواه، فان اولاده في المستقبل سيفعلون الشيء نفسه، فكما يرمي أبواه في دار العجزة، فانه سيلقى المصير نفسه بعد حين.
من الخطأ الفاحش أن يبني المرء علاقته بوالديه على اساس الربح والخسارة، وعلى اساس التفكير النفعي، بل عليه التفكير بأن أمه قد حملته وهناً على وهن، وأن والديه هما الوسيلة التي جاء عبرهما الى الدنيا، ولولاهما لما سنحت له الفرصة في دخول جنان الله الأبدية
ومن القصص المعبرة في هذا المجال؛ أن أماً أعطت لابنتها مالاً لتشتري لجدتها إناءً من الخشب، فسألتها: لماذا يا أماه؟! فأجابت: لأن جدتك تكسر الأواني الخزفية، فذهبت البنت وابتاعت إنائين، فسألتها الأم عن سبب ذلك، فقالت البنت: لقد اشتريت واحدة لجدتي، والثانية لك لأنك ستصبحين جدّة عما قريب، فتحتاجين هذا الإناء الخشبي.!
ومن المثير في الأمر أن الغرب الذي صدّر لنا ثقافة “الاستقلالية الأسرية”، و روّج للانفصال عن حضن الأم، وتاريخ الأب، نراه اليوم يثقف ابناءه على التواصل الأسري ويشيد بالأم وبالأب والجد، بينما بقي المسلمون هم الخاسرون الذين خسروا دفء الأسرة وحنان الأم، كما فقدوا تاريخهم وتجارب آبائهم، والمآل المؤلم حالياً؛ لا هم يتمكنوا من صنع شيء من عند انفسهم، كونهم عاجزون علمياً ونفسياً وحتى بدنياً –في احيان كثيرة- بعد أن وجدوا انفسهم وحيدين في الساحة، ولا هم يتمكنوا من العودة الى الجذور، والى تراث الآباء وتجاربهم وعبرهم بعد أن تنكروا لهم طيلة عقود من الزمن، وكيف لا؛ وقد يتحدث شخصٌ من على شاشة اسلامية بأن “التقاليد هو حديث عن الموتى”!!
وعليه؛ فان القرآن الكريم يمثل خشبة الخلاص، و الرابط المقدس الذي يشدّ العلاقات الأسرية ببعضها على قاعدة الإحسان للوالدين، والحب، والمودة، وكل القيم الاخلاقية التي تمثل مدرسة متنقلة للاجيال مع الزمن.
- مقتبس من كتاب: في رحاب القرآن، للمرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي.