قال تعالى : {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِير}.
لماذا نرى الردّة في فترات متفاوتة من التاريخ الاسلامي؟
ما هي الاسباب؟
وماذا يعني كلام القرآن في الآية التي تقول : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}؟
لابد لنا كمسلمين أن نبحث عن الاسباب التي تؤدي الى الضلالة، هناك اسباب كثيرة اهمهما:
اولا: جمود العاملين والدعاة الى الله على افكار معينة في الاساليب، غير مراعين تطورات الزمن، وهذا ما يؤكده الإمام علي، عليه السلام “لا تؤدبوا أولادكم بأخلاقكم ، لأنهم خلقوا لزمان غير زمانكم”، لان الانسان خُلق لزمانه هو، وفي حديث آخر عنه عليه السلام: “الناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم”، فالألويات اختلفت، والتركيز على القضايا المحيطة ايضا اختلف.
لكل زمن متطلباته الخاصة به، ولهذا فإن على العاملين في الساحة الاسلامية تغيير اساليبهم حسب الظرف الذي يعيشون فيه، مع التمسك بثوابت الدين
الآيات القرآنية وروايات النبي، صلى الله عليه وآله، وأهل بيته لم تشر الى أن احداً من البشر وصل الى ذروة التكامل، وكذلك لم يكتب لنا التأريخ شيئاً من هذا القبيل، فالذين وصلوا الى كمال معيّن مروا بمراحل شتى، فتارة يتقدمون وأخرى يسقطون، ولكنهم في الأخير وصلوا الى حد معين من التكامل وليس الى الذروة منه، ويصح تشبيه هذا التكامل بالحركة الحلزونية، ولهذا فإن كل زمان أفضل من السابق له، ولهذا فإن الانبياء يختلفون في مراحلهم التاريخية المختلفة.
فالنبي الذي يأتي أكمل ممن سبقه، والله سبحانه وتعالى، جعل أول النبيين ميثاقا، وآخرهم رسالةً، وهو النبي الاكرم، محمد صلى الله عليه وآله، لان البشرية تكاملت فاستحقت رسالة النبي الخاتم، وفي آخر الزمان يأتي الامام المهدي، عجل الله تعالى فرجه، فيكمل المسيرة البشرية الى التكامل، وكما اخبرت بعض الروايات، أن الإمام المنتظر هو أفضل ممن سبقه ما عدا الخمسة أصحاب الكساء.
وهنا تتبين الحكمة من ارسال انبياء مختلفين وفي أماكن مختلفة من العالم، انّ كل نبي يكمل ما بدأه النبي السابق، فالله سبحانه وتعالى لم يكتفِ بارسال نبي واحد الى البشرية كلها، لان الزمن يختلف، والاوضاع المحيطة تختلف، وحتى النبي الاكرم، صلى الله عليه وآله، تبعه اوصياء الى يوم القيامة غير منقطعين، وهذا يعني أن هناك تجدّد.
يقول تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }، ولعل المراد من الآية الانبياء والعلماء، وهذا الخير ليس مطلقا، وانما هذا النبي أو الإمام خير لهذا الزمان ممن سبقه.
ولهذا ترى أن هناك من بني اسرائيل لم يآمنوا بالنبي، موسى عليه السلام، وجمدوا على الافكار التي هم عليها، وادعوا أنهم على الحنفية، وكذلك عيسى، عليه السلام، لم يأمنوا به، تحت دعوى اتباعهم لشرعية موسى، ولا يزال هناك من يؤمن بكل الانبياء، لكنه لا يؤمن بالنبي الاكرم، محمد صلى الله عليه وآله، فما الفرق بين هذا محمد وعيسى.
ولنفس السبب، وهو الجمود على الافكار السابقة لم يؤمن بعض المسلمين بالامام علي، عليه السلام، فجمدوا وقالوا: “حسبنا كتاب الله!، وحتى أن هناك من الشيعة من سُموا بالواقفية، فمثلا هناك من وقف على الامام موسى الكاظم، عليه السلام، ولم يؤمنوا بالامام الرضا، عليه السلام من بعده، لكن هذه الفرقة انقرضت ولم تعد باقية.
وهذه المشكلة اليوم موجودة في مجتمعنا العراقي، فإذا رأينا بعض الافراد قد انحرفوا عن الجادة، فهذا يعني أن هناك خلالا في فهم الظروف، وبعد عشر سنوات ستختلف الظروف حتما، فالعولمة في تقدم، فسابقا كان الانسان يولد في نفس القرية، ويموت فيها، أما الآن فالظروف اختلفت، واصبح الناس يسافرون حول العالم.
الشعب العراقي اُصيب بنكسة ثقافية كبيرة بعد دخول المغول، تتمثل اليوم في الروح السلبية التي يحملها الكثير من ابناء هذا البلد، فظهرت ثقافة الانطوء والحزن والتشاؤم
ومع تغير الظروف وتسارع الاحداث على الكل أن يتحمل مسؤوليته، فالعلماء مسؤولون بالدرجة الاولى، عبر فهمهم واسيعابهم للزمن الذي يعيشون فيه، وليس من الصحيح الوقوف على الافكار السابقة، ولهذا فإن لكل زمان علمائه من كل جيل، حتى يتفهم هؤلاء جيلهم فيبيون لهم الدين ومجريات الحياة وتقلباتها.
ويمكن للعلماء أن يطوروا من اساليبهم عبر القرآن الكريم، لانه افضل وأكمل من أي كتاب آخر، فآيات القرآت كاشعة الشمس، تختلف اشعة اليوم عن الامس، كذلك آيات الذكر، ففي كل يوم جديد تصحب معها اشراقة جديدة من العلم والمعرفة، ولهذا فإن عدم قدرة البعض على الاقناع انما هو راجع لعدم مجراة الواقع، وفهمه بصورة صحيحة.
-
اتباع المجددين في الامة
الامة الاسلامية لا تخلو من اصحاب الفكر التجديدي، ولهذا فإن على الناس ان يبحثوا عنهم لاتباعهم، وللاسف فإن هناك من المفكرين كالشيخ باقر شريف القريشي، والشيخ محمد رضا المظفر، للاسف لم يهتم بهم أحد، والناس يتفقدون الى المقاييس الواضحة للبحث عن مثل هؤلاء، بل وهناك من يعارض امثال هؤلاء المفكرين، وواجهوا ايضا مشكلة أن المجتمع لم يتفاعل معهم ومع اطروحاتهم، ولهذا فإن على الامة الاسلامية البحث العلماء الذين يحملون الراية، ويسعون الى التجديد، ليتم استيعاب الشباب والاجيال القادمة، فالبقاء على جمود الماضي لن يقدّم الامة.
وقضية التقيلد عندنا نحن الشيعة جائر، امتثالا لكلام الامام العسكري، عليه السلام: “فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه مخالفا على هواه، مطيعا لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه”، والله سبحانه وتعالى يقول : {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}، ومع هذا التقليد لابد للانسان المؤمن أن يفكر، ويقرأ القرآن ويتدبر فيه، حتى ينقل الحقائق الى المجتمع، والتقليد في الامور الفقهية لانها اختصاص الفقيه، فالانسان المريض يذهب الى الطبيب لاخذ العلاج المناسب، لكنه في نفس الوقت أيضا يفكّر فيما يضر أو ينفع.
-
لماذا التشاؤم دائماً؟
الشعب العراقي من الشعوب المتميزة والمتفوقة، والعالم الاسلامي لفترة طويلة كان يقاد من بغداد إذ كان العاصمة الاسلامية، لكن بعد سقوط بغداد على ايدي المغول، ومن حينها اُصيب الشعب العراقي بنكسة ثقافية كبيرة، تتمثل اليوم في الروح السلبية التي يحملها الكثير من ابناء هذا البلد، فظهرت ثقافة الانطوء والحزن والتشاؤم، فالاشعار والكتابات وقراءة القرآن اصبحت قراءة حزينة، وهذا كله توارث من جيل الى جيل والى الآن.
ولكن هذه الحالة – ومع الاسف الشديد- ازدادت بفعل وسائل الاعلام المختلفة، فالاعلام الموجود اليوم في العراق، لا يبشر بأي خير، فهو غاض الطرف عن الايجابيات والانجازات، وكل جهة تستهدف الآخرى، حتى أن الالفاظ النابية تستخدم في هذه الوسائل دون أدنى تحرّج، وهذا ما يجب أن يُعالج من قبل العلماء والخطباء.
المجتمع مُطالب ايضا بأن يكون ايجابيا، والرسول الاكرم، صلى الله عليه وآله، يقول ” تفاءلوا بالخير تجدوه”، فليس كل ما في الواقع يدعو الى التشاؤم، فهناك جوانب ايجابية لابد من التركيز عليها، ولابد ايضا من انشاء تيار اجتماعي نظيف عن السلبيات، ويبعد المجتمع عن اتهام الآخرين وسوء الظن بهم، ولهذا يقول الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}، فالتجسس والتابز بالالقاب وغيرها من الصفات الرذيلة، يجب أن يتطهر المجتمع منها.
وعلى العلماء والخطباء والكتّاب والعاملين في الساحة ان يقوموا بتثقيف المجتمع، كذلك الاعلام له دور كبير، وهو مطالب أيضا بترك السلبيات، وبث الايجابيات، فالشعب العراقي له انجازات ويجب أن يُسلّط الضوء عليها، فتحرير العراق من داعش انجاز كبير جدا، ولا يزال الجيش والحشد يلاحق من تبقى اولئك الارهابيين في صحاري النخيب والانبار، ألا تستحق هذه الانجازات، وأن نعزز من روح الامل والتفاؤل بين الناس.
وعلى المجتمع أن يُدافع عن الحشد الشعبي، الذي يتعرض لحملات تشويه اعلامية داخلية وخارجية، ألا يجدر بالناس ان يدافعوا عنهم، وهم – الحشد- يضحون بانفسهم من اجل استتباب الامن، وأن يهنأ افراد المجتمع بالسكينة والطمأنينة.
————————————-
- مقتبس من محاضرة المرجع المدرسي بتاريخ 13-2-2020.