تشهد الثورات الكبرى والناجحة في العالم على أهمية توفر عناصر النجاح التي لولاها لما حصدت ثمار تضحياتها ومنها؛ القيادة، والتخطيط، والرؤية الشاملة للحاضر والمستقبل، وفي الحراك الجماهيري المتواصل في العراق، والذي وُسم بـ”ثورة اكتوبر”، تم التنازل بهدوء عن العنصر، والشرط الاساس؛ القيادة، بدعوى تعذر ولادة قيادة شرعية من رحم المجتمع العراقي في الوقت الراهن، مع وجود تقاتل شرس على النفوذ والهيمنة من لدن احزاب وتيارات سياسية تحكم قبضتها على مقاليد الحكم منذ عام 2003، وجميع هذه الواجهات السياسية تدّعي أنها “ضمير الشعب العراقي”! وعليه؛ صار الاكتفاء بقيادات ميدانية متحركة، وأن “المتظاهرين هم من يقودون انفسهم”! لتكون النتائج كما هو عليه الآن.
ولسنا في وارد البحث في صحة او سقم هذا الرأي، فهو الامر الواقع مهما كان، إنما المهم متابعة الظاهرة الثانية في هذا الحراك عندما تفتقد الرؤية المستقبلية وما تحمله من افكار وبدائل وحلول يفرضها المتظاهرون والمحتجون على الطبقة السياسية الحاكمة، وتحملهم مسؤولية تنفيذ إرادة الجماهير، والاكتفاء بالتظاهر والاستمرار بالرفض للواقع السياسي برمته، كما لو اننا أمام محاولة تكرار التاسع من نيسان عام 2003 عندما تمت الإطاحة بنظام صدام وحزب البعث وتشكيل نظام حكم جديد.
-
المطلوب وعي النهضة
صحيح أن السياسة، واسقاطاتها الواسعة على الواقع الاجتماعي والاقتصادي يجعلها تقرر المصائر وتؤثر في حياة الناس، بيد ان هذه السياسة، كمفردة، وتطبيقات عملية لن تظهر بواجهاتها على الساحة إلا بقاعدة فكرية وعقدية ومنهج ثقافي يترك بصماته على الأداء السياسي، ولذا نجد الدول في العالم تضع في مقدمة أولوياتها الحفاظ على قيم الحرية والمساواة وغير ذلك، وإن صدق هذا على هيكلية النظام السياسي، فمن الأولى ان يصدق على مشاريع النهضة والتغيير التي تخوضها الجماهير لتحقيق النجاح في تأسيس واقع سياسي أفضل، وهذا ما تنبّه اليه الشهيد والمفكر الاسلامي آية الله السيد حسن الشيرازي، الذي تمر هذه الايام ذكرى استشهاده الأليمة عام 1980، وهو يخوض غمار مشروع النهضة الكبير ضمن تيار الحركة المرجعية – الرسالية في العراق، والتي انطلقت في أوج الصراع الفكري والسياسي بعد انقلاب عام 1958، وظهور التيارات الإلحادية والقومية، وانتقال النظام السياسي في العراق من مدني – برلماني، الى عسكري – مليشياوي.
لنكن مفكرين، يعملون بإلهام الفكر المدبر، والعقل المتربّص، قبل
ان نكون عاطفيين، ولنشهد كياننا المتوقع من القاعدة الى القمة، ونعزز سيرنا بالتعبئة الفكرية المدروسة التي ترحب بالتطوير والتصحيح قاعدة فكرية واقعية تتوالد باطراد
ولم يكتفِ السيد الشهيد في التخندق لمواجهة الافكار الوافدة، والعمل على تفنيدها والحفاظ على عقائد المجتمع وأخلاق الشباب من الضياع، بل كان له التطلع ببصيرة نافذة الى المستقبل من وحي الواقع الاجتماعي الذي كان يعيشه آنذاك، فهو في الوقت الذي يحدد مسؤولية العامل الخارجي فيما آلت اليه أوضاع الشعب العراقي، فانه يحدد ايضاً عوامل داخلية ذات تأثير مباشر في الفراغ الثقافي والفكري، وحالة التخلف على مختلف الاصعدة، في مقدمتها؛ الابتعاد عن الجذور الدينية واستبدالها ببريق الحضارة الغربية، وقناعة الكثير من ابناء المجتمع على ان نجاتهم من التخلف ومشاكل الحياة مرهونٌ بالحصول على منتوجات هذه الحضارة مهما كانت، وبأي ثمن كان، فكانت النتيجة أن “هذا الاندفاع اللاشعوري مع الاغراءات الدعائية المسعولة، نفر بالأمة الى اتجاهات وقطاعات متذبذبة جرفتها بتياراتها على حدّي الاغراء والارهاب”، (موسوعة الشهيد السيد حسن الشيرازي- ج3،ص235)، ولذا فهو يحدد عناصر النهضة في الامور التالية:
1- وجود مبدأ شامل وصحيح
2- وجود قيادة حكيمة من صميم هذا المبدأ.
3- وعي الأمة بهذه القيادة وهذا المبدأ.
4- ثقتها بنفسها كأمة تستجمع مؤهلات النهوض المستقل.
5- تنفيذ الأمة لهذا المبدأ في واقعها بإيحاء تلك القيادة.
إنّ اتفاق الجماهير على مبادئ عامة يعد قاعدة الانطلاق نحو الانتصار وتحقيق المطالب الحقّة، فعندما تؤمن بمبدأ الحرية، والأخوّة، والسلام، والاحترام المتبادل، يكون من السهل عليها اتباع قيادة تولد من صميم هذه المبادئ، ومن ثمّ تكون مطالباتها في ضوء هذه المبادئ، وايضاً رؤيتها وتطلعها نحو المرحلة القادمة، فهي عندما تطالب بالحرية –مثلاً- تعي دلالاتها واستحقاقاتها، وايضاً سائر المطالبات، مثل مكافحة الفساد، لانها عملت بتلك المبادئ وتحاول ان تكرسها في حياتها اليومية، لا ان يكون مجرد شعارات ترفع هنا وهناك. يقول السيد الشهيد في هذا السياق :”لنكن مفكرين، يعملون بإلهام الفكر المدبر، والعقل المتربّص، قبل ان نكون عاطفيين، ولنشهد كياننا المتوقع من القاعدة الى القمة، ونعزز سيرنا بالتعبئة الفكرية المدروسة التي ترحب بالتطوير والتصحيح قاعدة فكرية واقعية تتوالد باطراد”.
السيد الشهيد يؤكد قبل حوالي نصف قرن من الزمان على أهمية وعي الامة لمبادئها وقيادتها، وبذل قصارى الجهود للحفاظ على الاثنين، وإي إخلال في مفردة منهما يتسبب فيما يصفه الشهيد بـ “الانخفاض الفكري في الامة”، كما يحصل في عديد الثورات الجماهيرية في العالم الاسلامية، عندما تتحرك الجماهير في ظل شعارات كبيرة واهداف بعيدة، لكن سرعان ما تجد ان كل شيء كان مجرد سراب، ولا وجود واقعي للمبادئ، ولا للقيادة المفترض انها تمثل ضمير الجماهير، والنتيجة؛ ما يمكن تسميته “الوعي العكسي للمبادئ والقيادة”، بمعنى التخلي عنهما تماماً، وقد اشار الشهيد الى هذا المآل بان “الانطباعات التأثرات التي انتهت بالأمة الى هذه النتيجة المستفيضة عن انعكاس خاطئ في طريقة تفكيرها، ومعالجتها للواقع، جعلتها تلجأ الى قيادات اجنبية عن طبيعتها وطبيعة حياتها”.
-
المخرج الى سبيل
العودة الى القرآن الكريم، والى كلمات وروايات أهل البيت، عليهم السلام، الذين قدموا في حياتهم أرقى وأعظم النماذج لانظمة وقوانين وأحكام يمكن ان يسعد بها شعب في العالم، والامر يحتاج الى إرادة وعودة حقيقية الى الله –تعالى- تجسيداً للمعادلة الواردة في حديث لأمير المؤمنين، عليه السلام: “من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس”، بما يؤكد العلاقة الوطيدة بين النجاح في الحالة المبدأية والقيمية، وبين النجاح في الحالة الاجتماعية، ولذا قال علماؤنا أن الامة المجاهدة التي تحترم شهداءها وتضحياتها، هي أمة محترمة ولن تموت.
وفي مقدمة كتابه القيّم “كلمة الله”، يشير الشهيد الشيرازي الى حقيقة محورية في نهضة الأمة وبناء الانسان، وهي العلاقة الصادقة بين الانسان وربه فيما يشبه القوس الصاعد والنازل من الارض الى السماء، ضمن معادلة “الخوف والرجاء”، وأن على الانسان تغيير نفسه أولاً، وبناء ذاته وفق المعايير السماوية فقط، فهي التي تمنحه الحصانة من المؤثرات الخارجية، وكل ما من شأنه ان يسبب له المشاكل في حياته، بل واكثر من هذا؛ تضعه على طريق النمو والتطور والمستقبل الواعد.