ما برحت الصحوة الاسلامية منذ انطلاقتها تواجه مختلف اشكال التحديات الداخلية والخارجية وهي في طريقها لتقديم صياغة جديدة للثقافة والوعي خارج نطاق الديكتاتورية ومنظومته الثقافية القائمة على التكميم والإلغاء والتسطيح، الامر الذي يتطلب من الإسلاميين، وهم؛ الشريحة الواعية والمسؤولة في المجتمع، الوقوف بصلابة و قوة لتأكيد ريادية الفكرة الإسلامية وأفضليتها لقيادة الحياة.
ولا يتأتى ذلك إلا من خلال فهم واعٍ وعميق ومدرك لحجم المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتق ابناء الأمة في ميدان التحول من طور الجمود إلى عالم الحركة والتفاعل.
وهنا لابد من الإيضاح بأن للفكرة الإسلامية في خطابها العام هدفان:
أولاً: تحريك الوعي العام واستثارة حسّ المعرفة الشامل بما تتضمنه الفكرة الإسلامية من رؤية وبصيرة وعناوين اخلاقية عامة تهذب سلوك الفرد والمجتمع فيما يرتبط بقيم العدالة والحقوق والحرية، و إبراز عناصر قوتها وفعاليتها في تحقيق التوازن المطلوب في قيادة الحياة.
من أولى مهام الحركة الإسلامية أن تضطلع بها لتعزيز ما تعيشه من صحوة؛ هدم هاجس الخوف من بطش ووحشية السلطات الديكتاتورية وبعث الأمل بالقدرة على التفوق في المواجهة في كافة ميادينها
وهنا لابد ان يستفزّ ابناء الأمة قدراتهم في إبراز ملامح فكر النهضة او الصحوة السياسة من خلال التركيز على مجموعة الرؤى والبصائر المتعلقة بإعادة الثقة في قدرة الإسلام على المنافسة بل والتفوق على تيارات الإنحراف في الأمة.
كما لابد في هذا الإتجاه أن تقوم الصحوة بعملية تنوير ضخمة تستوعب إرادة الأمة وتستفز فيها روح القدرة على المواجهة والمقاومة لردع تيارات الإنحراف وإلحاق الهزيمة بها، وتبيان التفاصيل المتعلقة بتفوق عناصر التخطيط والأمل والثقة بأن الباطل والزيف يصرعه الحق بقوة وعدالة ومشروعية الحق ذاته في مواجهة الباطل.
ثانيا: مواجهة التحديات والإشكالات المنهجية وغير المنهجية؛ فهناك تيارات مسيطرة لا يروق لها تقدم الحركة الإسلامية، لما تمثله من تهديد حقيقي لضرب مصالحها في النهب والاستحواذ على مقدرات الأمور والعباد في بلاد الله الواسعة. وهي لا تدّخر جهدا ولا طاقة ولاقدرة في أي ميدان أو مجال إلا وسخرتها من أجل ضرب الصحوة الإسلامية أو محاولة تطويقها ومحاصرتها في اضيق نطاق ممكن.
والحقيقة أن الصحوة الإسلامية ولكي تحرز انتصاراتها ومواقعها المتقدمة، لابد لها من مواجهة تلكما التحديات التي تفرضها طبيعة المواجهة.
إن سنوات طويلة من سيادة منطق الهزيمة والإستسلام لمنطق الأمر الواقع، أدى إلى تراجع الأمة وتقهقرها في مختلف الميادين، بل وصلت الهزيمة النفسية حداً قاسياً ومريعاً عندما فقدت الأمة الأمل في قدرتها على التغيير والريادة، وعاشت في يأس مرير من مجرد الأمل بالقدرة على التغيير مما أدى إلى سيطرة تيارات الزيف والإنحراف في الأمة على الحياة العامة لسنوات طويلة.
هذا برغم ما تختزله الفكرة الإسلامية من تراث قرآني عملاق وتاريخ ثري بالمواجهة والتحدي، يدعو إلى ضرورة قتال الإعداء وعدم الإستسلام لهم إلا متربصاً لقتال.
ولعل من ابرز ما على الصحوة الإسلامية تعزيزه في هذه الفترة الحرجة من عمر امتنا الإسلامية هو مواجهة الثقافة التبريرية التي لا تزال ذيولها تعصف بكل مشروع نهضوي على الساحة تريد جره إلى الوراء فيما هو يحاول النهوض والإستمرار في المقاومة، وفرض البديل الإنساني والإخلاقي الأفضل، بدعاوى عدم القدرة على المواجهة بسبب سيطرة التيارات الإنحرافية في الأمة على الأنظمة السياسية والتحكم في موارد البلاد المالية والعسكرية والسياسية.
-
ما هي المهام المطلوبة؟
مهمة الصحوة الإسلامية في الوقت الراهن تتمثل بدرجة أساسية في ثلاثة ابعاد في غاية الأهمية والخطورة على مستقبل الصحوة الإسلامية وهي:
المهمة الأولى: تعبئة الأمة بمادة الفكر، ومادة الروح التي تعيد الثقة للأمة بقدرتها على التغيير، بالذات اذا ما توافرت عناصر التخطيط والإرادة والقناعة والعقيدة والإيمان بمشروعية الفكرة وشرعية العمل والجهاد والتضحية من أجل تحقيقيها.
والتضحية او الشهادة والإيثار بالنفس والمال من العناوين المهمة لقيادة الأمة نحو تعزيز مكاسب هذه الصحوة والإرتقاء بها وتحقيق المزيد من أهدافها في اكثر من ساحة اسلامية؛ فالمسلمون لابد أن تتاح لهم الفرصة في أن يعيشوا في ظل واقع يتماشي مع القيم السماوية العظيمة، وأن يسعدوا بدولة الرفاه والعدالة الإجتماعية والإنصاف، وهنا لابد للصحوة من أن تسهم في غرس ثقافة جديدة تتمحور حول فلسفة العطاء والذوبان في القيم الإسلامية والإستعداد للتضحية من أجل ريادتها وقيادتها للمجتمعات الإنسانية.
لابد أن تتاح للمسلمين الفرصة في أن يعيشوا في ظل واقع يتماشي مع القيم السماوية العظيمة، وأن يسعدوا بدولة الرفاه والعدالة الإجتماعية والإنصاف
المهمة الثانية: رصد التحديات؛ إذ لابد أن ترصد حركة الصحوة كافة الإشكالات والتحديات الموجهة بقصد الإساءة إلى الفكرة الإسلامية أو بقصد محاصرتها وتطويقها والحد من قدرتها على الـتأثير الإيجابي في نفوس الأمة ووضع المعالجات الكفيلة بإفشال المخططات والمؤامرات التي تستهدف تقويض الصحوة وابعاد الحركة الإسلامية من الوصول الى قمة الهرم، وبما يساعدها على وضع الخطط والبرامج والإستراتيجيات الكفيلة بتحقيق التفوق.
المهمة الثالثة: تحطيم حاجز الخوف والهلع.
إن الغاية الأساس في حركة الصحوة الإسلامية المعاصرة هو إقناع العقل الإسلامي بالتفوق وبقدرته على التغيير، وذلك مهما كانت دسائس القوى المعادية التي تستهدف هذه الصحوة في اهدافها ورسالتها. وبما يعني غاية تطهير العقل المسلم من كل خضوع لقوى الإنحراف المهيمنة مهما كانت سطوتها.
لقد كان الخوف والهيبة والرهبة من القوى المهيمنة سبباً في تشكيل ثقافة منهجية طيلة قرون متطاولة رزح فيها المسلمون تحت قبضة سلطات قاسية ووحشية لا ترحم، وكرست حالة الخوف هذه هيمنة تيارات الإنحراف في الأمة بأساليب لم يعُد معها الحاجة الى استحضار القسوة والعنف في أحايين كثيرة، بل وصلت الأمور إلى كفاية “التخويف” بهما، لتطويع وتركيع الأمة.
ولذلك فان من أولى المهام التي لابد للحركة الإسلامية أن تضطلع بها لتعزيز ما تعيشه من صحوة؛ هدم هاجس الخوف من بطش ووحشية السلطات الحاكمة المستبدة والديكتاتورية وبعث الأمل بالقدرة على التفوق في المواجهة في كافة ميادينها.
ويمتلك الفكر الإٍسلامي تراثاً ضخماً في هذا السياق يمكن تدويره بشكل يبعث فيه الروح والإنطلاق من جديد في وعي الأمة لتنعتق من جدار التخلف والخوف إلى رحاب التغيير والريادة والقيادة. ويتأتى ذلك من خلال تكريس قيم التضحية والشهادة والإيثار، والتي من خلالهما فقط يمكن حسم خيارات الأمة في معركتها مع فلول تيارات الإنحراف في الأمة التي تنظر الى السلطة والحكم كقنوات للسيطرة والتحكم لا كرسالة إنسانية سامية.
و ربما يعد البعض، في بعض مواقع الساحة الإسلامية العريضة بأن هذا المنطق استغراق في الأوهام السياسية والخيالات الفكرية ليس إلا، بسبب أن عيون الواقعية التي ينظرون اليها إنما تختزل هذا الواقع فقط بقدرة السلطات الحاكمة على القمع وممارسة الإنتقام بقسوة ووحشية بالغة، بينما يغيب عن مساحة هذه الرؤية الأجزاء الأخرى المتعلقة بهذا الواقع، وهي فيما يتصل بعوامل وعناصر التغيير المتمثلة بإرادة الأمة، ومدى ايمانها واستعدادها للتضحية من اجل استرداد حقوقها الضائعة والمنهوبة، وبشرعية الحق الذي تمثلها أمام زيف الباطل مهما تلبس بلباس الشرعية وتمثيلها.
المهمة الرابعة: إعادة الروح والحيوية لنصوص القرآن الكريم لتعيش تفاصيل الواقع وتغذي في الأمة مادة الفكر اللازمة للتفوق والتزود بالطاقة والروح الملائمة لمستويات التغيير.
فالكتاب المجيد ينبض بالحياة، ومفعم بآيات توضح وتشرح سنن وقوانين الحياة بمختلف تفاصيلها، وقد حاولت التيارات الاخرى بما تمتلكه من أدوات لادارة الصراع من أن تحول القرآن من كونه دستور حياة وتفوق، الى مجرد كتاب للطقوس الظاهرية.
بينما تنضح آيات القرآن الكريم بالحركة والعمل، فكيف لمسلم أن يقرأ قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}، (سورة آل عمران، الآية 173)؟
وكيف يقرأ قوله تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً}، (سورة الأحزاب، الآية 39).
وكيف يقرأ قوله تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، (سورة آل عمران، الآية 39).
والخلاصة؛ كيف يقرأ آيات الذكر الحكيم، كقوة فاعلة محركة للقيم والمعاني في سقوف الحياة المتعددة والمتنوعة؟ وكيف يقرأ آيات الجهاد المتناثرة بين ثنايا دفتي القرآن الكريم؟ وكيف يقرأ تلك النصوص المتعلقة في مجاهدة الظالمين؟
وهذه أيضا مهمة اساسية في خضم التحولات المعاصرة للنهضة او الصحوة الإسلامية، ونقطع بالجزم بأن هذه المهمة هي الأخطر والأهم على الإطلاق لما تنطوي عليه من التأثير في بناء الوعي المعرفي وبناء العقل المسلم من حيث الحركة والتفاعل والإنسجام مع ما يضخه القرآن الكريم من رؤى وبصائر في سياق التحدي الإنساني والحضاري الكبير.
إن رهان كسب الجولة القادمة من عمر الصحوة الإسلامية مرهون بمدى قدرة ابناء الأمة على تحويل القرآن من مجسم مقدس قابع فوق الرفوف، الى كتاب حياة يضخ قوة وعزما و إرادة و رؤية وبصيرة واضحة تعين المؤمنين في الواقع العملي على قيادة الحياة في مختلف المراحل من عمر الصراع الحضاري القائم. وهو من أسباب القوة الداخلية الرئيسية التي يصعب اختراقها او الإلتفاف عليها او احتوائها مهما كانت طبيعة المغريات او التحديات.