{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ * إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْديهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ * فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ قالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ}.
لكل انسانٍ مخزونٌ من تجاربه الشخصية او تجارب الآخرين ، فاذا تصورنا شخصاً عادياً نجده يختزن كمّاً هائلاً من تجارب البشرية عبر التاريخ، ولاكتشاف صحة هذه الحقيقة لسنا بحاجة الاّ الى مقارنة هذا الانسان بآخر ينمو في بيئة معزولة عن اجداده واسلافه، وهكذا كانت اهم صفة لدى البشر علمه للبيان، الذي قال سبحانه عنها: {خَلَقَ الْإِنْسان *عَلَّمَهُ الْبَيان}، ومعنى ذلك قدرته على نقل تجاربه الى الآخرين، سواء عبر الكتابة او تأطيرها بأطر متنوعة مثل الشعر والقصص والامثال، او عبر بيانها بصورة مباشرة، انها ميزةٌ عظمى حُبي بها البشر دون سائر الاحياء، فالحيوانات التي تستطيع ان تكتسب بعض المهارات مثل القطط والدلافين وبعض انواع الطيور، تعجز عن نقل تلك المهارات المكتسبة الى غيرها لافتقادها للبيان.
وبناءً على ذلك، فكلما زادت قدرة الانسان في الاستفادة من تجارب الغير زادت نسب نجاحه في الحياة، فهو يزداد بذلك علماً وقوةً وخبرة، ومن جهة أخرى لم يخلق الله الانسان عبثاً، فالاستفادة من التجارب لابد ان تكون لغايةٍ، وقد خلق الله الانسان وسخّر له كل ما في هذا الكون لهدفٍ سامٍ لابد ان يعيه، كي يستطيع التحرك في الاتجاه الصحيح، وكما في الحديث القدسي: ” عبدي خلقتُ الأشياءَ لأجلك و خلقتُك لأجلي، وهبتك الدنيا بالإحسان و الآخرة بالإيمان”، ومن هنا كان ثواب الله الذي وعد به اولياءه عظيم لا يلوح ببال بشرٍ سعته وكثرته، وفي المقابل فإن عذابه الذي أنذر به وتوعّد به العاصين اليم .
والمؤمن ينتفع في حياته من هاتين المدرستي، اعني مدرسة الوجود التي بها يصل الى معرفة الله سبحانه، ومدرسة التاريخ التي من خلالها يستقي التجارب والعبر في حياته، وقد كانت اكثر حياة أبي ذر الغفاري رضوان الله عليه – كما في الأثر- التفكر، فعن أبي عبد الله ،عليه السلام : “كَانَ أَكْثَرُعِبَادَةِ أَبِي ذَرٍّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ خَصْلَتَيْنِ التَّفَكُّرَ وَ الِاعْتِبَارَ”.
وسياق الأيات التي تلوناها من سورة فصلت، بصدد تذكير الانسان بقصص الماضين علّه يعتبر بها، وانذار الآيات الكريمة كفارَ قريش بقومي عادٍ وَ ثَمُودَ على وجه التحديد، هو لقرب مناطقهم عن مكة جغرافياً، حيث كانت في اطراف الجزيرة العربية، مضافاً الى انهم – اي قريش – كانوا قد سمعوا انبائهم وما جرى عليهم ، وبعد كل ذلك ان عاد كانوا عرباً كما هو الحال بالنسبة للقريش ، فالعرب حيث يقسمهم المؤرخون ثلاث: العرب العاربة : واصلهم من اليمن نزحوا الى الجزيرة العربية، والعرب المستعربة: وهم اولاد النبي اسماعيل،عليه السلام، وقريش منهم والعرب البائدة: وهم قوم عاد، وقيل قوم ثمود ايضاً.
{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ }.
في بداية السورة كان الحديث عن اعراض اكثر الناس عن الحقائق، وهنا؛ تبين الآية الكريمة نتيجة اعراض الانسان وتكذيبه الرسل والآيات،ولما لم يعِ الكفار بصائر الوحي التي بينها النبي الاكرم، صلى الله عليه واله، استبدل الرب ذلك بانذارٍلا هزل فيه: {صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ}.
الصعقة هي ما تأتي فجأة، من ( صعق يصعق صعقاً)، سواء كان ذلك بالریح العاتیة التي ارسلها الله على قوم عاد، وكما في الحديث، عن الامام الباقر،عليه السّلام-:”أنّ للّه ـ تبارك وتعالى- بيت ريح مقفّل عليه لو فتح لأذرت مابين السّماء والأرض، ما أرسل على قوم عاد، إلّا قدر الخاتم”.
اقول سواء كان كذلك، اوبالعذاب الذي نزل على ثمود من صرخةٍ خرقت اسماعهم وفلقت قلوبهم وصدعت اكبادهم بعد ثلاثة ايام من تغير الوان وجوههم كمقدمات للعذاب، فعذاب الله يأتي بغتةً دون امهالٍ للناس، لا لفرارهم ولا لاستغفارهم مما هم اقترفوه.
{إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْديهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ الله}.
دعوات الرسل لهم كانت قبل وبعد انحرافهم، وكانت تتلخص في انقاذهم من براثن الشرك المتمثل تارة بعبادة الجبت واخرى بعبادة الطاغوت، والأخذ بهم الى رحاب عبادة الله سبحانه وحده لا شريك له.
{قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ}
في قبال الدعوة الصادقة للرسل، انبرى المشركون لتكذيبهم ومجابهتهم بالحرب النفسية والجسدية، حيث ادعوا ان الله لو اراد اخراجنا مما نحن فيه، لأنزل الينا الملائكة – بدلاً من البشر- ليقهرونا على الايمان بالله، وبما انه لم ينزل ملائكةً من السماء فإنا نكفر برسالاتكم التي جئتم بها.
{فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ قالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}
كفر عاد تجلّى في استكبارهم بما اعطاهم الله سبحانه من الاجسام القوية والامكانات الكثيرة، حتى انهم كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً بسبب قوتهم ومنعتهم، الأمر الذي دعاهم الى الغرور بقوتهم والاستكبار في الأرض، فكانوا يقطعون الطرق ويؤذون الناس، وكما يقول سبحانه : {وَ إِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارين}.
{أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً }.
كيف اجازوا لأنفسهم الاستكبار بما يملكون من قوة ومنعة، والحال ان الذي خلقهم واعطاهم تلك القوة هو اشدّ منهم قوة؟
{وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ}، ولكن جحدهم آيات الله سبحانه وتكذيبهم لرسله، كان سبباً في تماديهم في الغيّ والظلم.
-
سنن الله لا الصدفة
وفي الآية بصيرة هامة؛ اننا كبشر ننسب حوادث الحياة – بسبب جهلنا- الى الصدف والحظوظ، فيقول احدنا كدت ان اسقط في البئر لكن انقذني احدهم كان يمر من هناك صدفة، او يقول ان هذا حظي في الحياة الدنيا، وهذا غير صحيح، اذ كل ما في الدنيا يحدث لسببٍ فيزيائي ( مادي) او سبب غيبي، فلا وجود للصدف في خلق الله سبحانه وتعالى، وقد بينّت النصوص الشريفة بعض تلك الاسباب الغيبية التي يعتقد الانسان انها صدفة جهلاً وقصوراً من العلم .
المؤمن ينتفع في حياته من مدرستين، مدرسة الوجود التي بها يصل الى معرفة الله سبحانه، ومدرسة التاريخ التي من خلالها يستقي التجارب والعبر في حياته
مثلاً؛ انتشار موت الفجأة يعود الى كثرة الزنا في المجتمع، ونقص الأمطار يعود الى جور القضاة في قضائهم ، اليك بعض تلك النصوص: عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام، قَالَ: “وَجَدْنَا فِي كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ إِذَا ظَهَرَ الزِّنَا مِنْ بَعْدِي كَثُرَمَوْتُ الْفَجْأَةِ وَ إِذَا طُفِّفَ الْمِكْيَالُ وَ الْمِيزَانُ أَخَذَهُمُ اللَّهُ بِالسِّنِينَ وَ النَّقْصِ وَ إِذَا مَنَعُوا الزَّكَاةَ مَنَعَتِ الْأَرْضُ بَرَكَتَهَا مِنَ الزَّرْعِ وَ الثِّمَارِ وَ الْمَعَادِنِ كُلَّهَا وَ إِذَا جَارُوا فِي الْأَحْكَامِ تَعَاوَنُوا عَلَى الظُّلْمِ وَ الْعُدْوَانِ وَ إِذَا نَقَضُوا الْعَهْدَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوَّهُمْ وَ إِذَا قَطَّعُوا الْأَرْحَامَ جُعِلَتِ الْأَمْوَالُ فِي أَيْدِي الْأَشْرَارِ وَ إِذَا لَمْ يَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ لَمْ يَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لَمْ يَتَّبِعُوا الْأَخْيَارَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ شِرَارَهُمْ فَيَدْعُوا خِيَارُهُمْ فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ.”، وعن أبي عبد الله عليه السلام: “إِذَا جَارَ الْحُكَّامُ فِي الْقَضَاءِ أُمْسِكَ الْقَطْرُ مِنَ السَّمَاءِ”.
وهكذا هو الحال بالنسبة الى نزول عذاب الله سبحانه على الكافرين، ليس لأن اسمهم قوم عاد، بل لكفرهم وغيهم وتكذيبهم رسل الله، وكل قومٍ يفعلوا فعلهم يستحقون العذاب الالهي، فقريش ليسوا بدعاً من الأمم، فاذا هيئّوا علل العذاب لا يكونوا بمنأى عنه.ذلك لأن سنة الله سبحانه واحدة وثابتة، ولا تتبدل بتقادم الايام واختلاف الامصار والاقوام.
-
الشباب وتجارب الماضين
وفي سياق الاستفادة من تجارب الماضين لابد ان نحذر من وجود فاصلة تفصل الاجيال الصاعدة بالجيل السابق، فسابقاً كانت العوائل تعيش في مكانٍ واحد ويتزوج الابناء في بيت الأب ، ويأكلوا من مائدة واحدة، اما اليوم فالهوّة كبيرة بين الوالدين وابنائهما، فحتى لو كانوا يعيشون في البيت الواحد فإن انشغالهم – جميعاً- بالتلفاز او الانترنت او شبكات التواصل المتوفرة في الاجهزة الذكية، يجعلهم غرباء عن بعضهم البعض، وبذلك افتقد الشاب فرصة الحصول على تجارب ابيه او جده، فراح يتعثر في حياته الشخصية والاجتماعية، فكم من زيجة تمّت عبر الانترنت كان مآلها الطلاق قبل انقضاء سنة من الزواج؟ وكم من شابة باتت عاجزة عن تربية اطفالها بسبب عدم استفادتها من تجارب أمها.
وحتى نحصل على افضل النتائج في حياتنا في ضوء القرآن الكريم، يجدر بنا الالتفات الى أمرين:
الاول :على كبار السن ان ينقلوا تجاربهم في الحياة للاجيال القادمة، وذلك بمختلف الاساليب ، وعلى الصغار ان يتلقوا منهم ويستمعوا منهم –حتى لو لم يعملوا بها – ، بل لتزداد خبرتهم في الحياة.
الثاني: على الشاب ان يبحث عن رجل كبير في العمر محل ثقةٍ عنده، فيستمع منه تجاربه ويطلب منه نصائحه ومواعظه، ففي الحديث عن الإمام زين العابدين، عليه السلام : “هَلَكَ مَنْ لَيْسَ لَهُ حَكِيمٌ يُرْشِدُه”.