-
الوداع مُرٌّ كالعلقم
وأمر ما في الموت هو الفراق (فراق الأحبَّة) كما يُنقل عن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، في آخر لحظات حياته الشريفة، ولكن الوداع الأصعب والأقسى كان ويكون من المحبوب لحبيبه، ومن الأم لأولادها الصغار، ومن الشاب أو الشابة لشبابها.
وكل هذا كان في حياة سيدتنا ومولاتنا فاطمة الزهراء، عليها السلام، في أيامها الأخيرة، ولحظاتها الأخيرة في هذه الحياة التي كانت السلطة القرشية في غاية القسوة عليها فيها، حيث مارست كل ما لديها من وحشية، وظلم وجاهلية، وهي بضعة نبيهم، ورسول الله إليهم..
فعن أي وداع نتحدَّث أحبتي؟ هل عن وداعها لأبيها رسول الله، صلى الله عليه وآله؟
أم وداعها لشبابها وصحتها وجنينها المُسقط؟
أم لعظمتها ومكانتها وسؤددها في أمة أبيها حيث كانت (أم أبيها) فيها؟
أم لأطفالها بما فيهما سيدا شباب أهل الجنة، وأختهم العقيلة الهاشمية زينب الكبرى عليها السلام؟
أم لحبيبها وقرَّة عينها وسيدها وزوجها فحل الرجال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب،الذي سينفرد فيه القوم من بعدها كما قالوا: “لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه”، أو : “لا أقتله مادامت فاطمة عنده”!، وبما أن فاطمة عليها السلام، كانت شابة ولم تكن مريضة، فهل كان يقصد الرجل: أقتلوا فاطمة أولاً، تمهيداً لقتل علي عليه السلام؟!
ففي حديث ابنة الحاكم تروي، وتقول: “فَأَبَى أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى فَاطِمَةَ مِنْهَا(ميراثها) شَيْئًا، فَوَجَدَتْ فَاطِمَةُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فِي ذَلِكَ، فَهَجَرَتْهُ، فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حَتَّى تُوُفِّيَتْ، وَعَاشَتْ بَعْدَ النَّبِيِّ ،صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلهِ، سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ دَفَنَهَا زَوْجُهَا عَلِيٌّ لَيْلًا وَلَمْ يُؤْذِنْ بِهَا أَبَا بَكْرٍ، وَصَلَّى عَلَيْهَا، وَكَانَ لِعَلِيٍّ مِنْ النَّاسِ وَجْهٌ، حَيَاةَ فَاطِمَةَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ؛ اسْتَنْكَرَ عَلِيٌّ وُجُوهَ النَّاسِ”. (رواه البخاري 3998) .
إذا لم نعرف قيمة فاطمة الزهراء، عليها السلام، لن ندرك قيمة وداعها لهذه الحياة بهذا الشكل المأساوي، الذي أرادته (ع) ليكون صرخة عبر الأجيال لتسأل نفسها أين قبرها، وأين دُفنت، ولماذا دُفنت ليلاً ولم يُؤذن بها سلطان قريش؟
ولكن لو سالتهم: لماذا منعتم فاطمة من حقها وإرثها أيها القوم؟
لجاءك الجواب من حفيدها الإمام الصادق،عليه السلام قال: “لما ولّي أبو بكر قال له عمر: إن الناس عبيد هذه الدنيا لا يريدون غيرها، فامنع عن علي الخمس والفيء وفدكاً، فإن شيعته إذا علموا ذلك تركوا علياً رغبة في الدنيا، وإيثاراً ومحاباةً عليها، ففعل ذلك وصرف عنهم جميع ذلك”. (مستدرك الوسائل: ج7/290)
فأي وداع ودَّعت فاطمة الزهراء،عليها السلام، هذه الأمة التي بنتها مع أبيها وبعلها كما تبني بيتها فما أن أغمض أبوها،صلى الله عليه، عينيه عنها حتى جاؤوا ليحرقوا عليها بيتها، وغصبوا منها حقها، وأرادوا قتل زوجها الحبيب الذي قام الإسلام بسيفه.؟
وأي وداع كان منها لأولئك الرهط من قريش الذين أوصت ابن عمِّها أن لا يحضروا جنازتها، وكانت تقنت بالدعاء عليهم في كل صلاة تصليها كما قالت لهم مباشرة كما يروي العلماء حيث (ذكر ابن قتيبة خبر دخول الشيخين على فاطمة ،عليها السلام، وذلك بعد تفاقم الأمر، قال: فقال عمر لأبي بكر: “انطلق بنا إلى فاطمة (عليها السلام) فإنا قد أغضبناهما، فانطلقا جميعاً، فاستأذنا على فاطمة ،عليها السلام، فلم تأذن لهما، فأتيا عليّاً ،عليه السلام، فكلّماه، فأدخلهما عليها، فلما قعدا عندها، حوّلت وجهها إلى الحائط! فسلّما عليها فلم ترد عليهما السلام”. الله أكبر أي جناية فعلاها، فلم يستحقا منها – روحي فداها – رد السلام وهو واجب؟
فقالت، عليها السلام،: “أ رايتكما إن حدّثتكما حديثاً عن رسول الله، صلى الله عليه وآله، تعرفانه وتفعلان به؟ قالا: نعم.
فقالت: “نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله، يقول: رضا فاطمة من رضاي، وسخط فاطمة من سخطي، فمَن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبّني، ومَن أرضى فاطمة فقد أرضاني، ومَن أسخط فاطمة فقد أسخطني”.
قالا: نعم، سمعنا، من رسول الله ،صلى الله عليه وآله.
قالت: “فإني أُشهد الله وملائكته، أنكما أسخطتماني، وما أرضيتماني، ولئن لقيت النبي ،صلى الله عليه وآله، لأشكونكما إليه، والله لأدعون الله عليك في كل صلاة”.
فقال أبو بكر: أنا عائذ بالله تعالى من سخطه وسخطك يا فاطمة!
ثم انتحب أبو بكر يبكي، حتى كادت نفسه أن تزهق، وهى تقول: “والله، لأدعون الله عليك في كل صلاة أصليها.. ثم خرج باكياً. (الإمامة والسياسة، ابن قتيبة: 1 / 20)
هكذا كان الوداع الفاطمي غضباً، وسخطاً، ودعاءً على السلطة القرشية ورجالاتها، فأي توفيق وأي سياسة، وأي مدنية يصنعها رجال مغضوب عليهم من الله ورسوله وأمير المؤمنين، وفاطمة الزهراء؟
أيها الأمة المرحومة – يا مَنْ فقدت البوصلة في حياتك – أما آن لك أن ترجعي إليها لتحددي مصيرك بما هو مرضي من الله ورسوله؟
وداع فاطمة يجب أن يُعيدنا إلى تلك الأحداث ونحاكم أولئك الرجال على إضاعة الأمة طيلة هذه القرون، وعلى اليوم فما يحصل في بلداننا كلها ما هو إلا نتيجة طبيعية لتسلط رجال قريش على مقاليد السلطة بعد رسول الله، صلى الله عليه وآله، فهي تتنازل، وتتسافل كما يقول الحسن البصري منذ الأول، حيث قال: “كل عام ترذلون”، لأن الانحراف يزداد كلما ابتعدنا عن المركز، ومركز هذه الأمة، بل هذا الكون، هو محمد وآل محمد.
فالوداع الفاطمي يجب أن يعيدنا إلى فطرتنا، وعقلنا وديننا الحنيف كما أنزله الله، وبلغه رسول الله، صلى الله عليه وآله، وكفانا عبادة للسلطان والحاكم حتى لو كان ألعن من الشيطان الرجيم، كمعاوية ويزيد، وهارون الرشيد، وبريمر بعد صدام حسين، وكل ما في التاريخ العراقي من هؤلاء الجبابرة والطغاة على مر العصور وكر الدهور.
فنحن نبحث عن الحاكم العادل ولن يوجد إلا في الدين الحنيف، والعترة الطاهرة من آل البيت الأطهار،عليهم السلام من أبناء وأحفاد فاطمة الزهراء، فاين تذهبين عنهم أيتها الأمة المرحومة؟
إذا لم نعرف قيمة فاطمة الزهراء، عليها السلام، لن ندرك قيمة وداعها لهذه الحياة بهذا الشكل المأساوي، الذي أرادته (ع) ليكون صرخة عبر الأجيال لتسأل نفسها أين قبرها، وأين دُفنت، ولماذا دُفنت ليلاً ولم يُؤذن بها سلطان قريش؟
هنا المأساة الدائمة المستمرة التي تفوق مأساة كربلاء الخالدة في فظاعتها وبشاعتها، لأنها مازالت مكتومة القبر، منكورة الحق، مظلومة مهضومة من أمة أبيها التي لم تساندها في حقها.