الله سبحانه وتعالى رأفة ورحمة بنا جعل لنا قدوة وأسوة لنا من أنفسنا حتى تكون لنا المثال الذي نقتدي به أو الأسوة التي نتأسى بها في حياتنا الخاصَّة والعامةَّ.. فقال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (سورة الأحزاب: 21)
إن رسول الله، صلى الله عليه وآله، أسوتنا في كل خير وفضيلة، ومنه خلق الله اشرف واعظم وأكمل امرأة خُلقتْ في الوجود، إنّها البضعة فاطمة الزهراء، عليها السلام، التي خلقها الله من نور عظمته في عالم النور، وأخرجها من أشرف خلقه محمد المصطفى، صلى الله عليه وآله، في عالم الظهور، وقرنها بصنوه وأخيه سيد الأوصياء واعظم الأولياء أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، وجعلها بطناً، وحجراً لسيدا شباب أهل الجنَّة الحسن والحسين عليهما السلام.
فأكرم بها وأعظم من مخلوقة نورانية الأصل والفرع، زهرانية اللون في هذا الكون، يقول الرسول الاكرم، صلى الله عليه وآله: “لأنها كانت إذا قامت في محرابها زهَّر نورها لأهل السماء كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض“. (علل الشرائع/ج 1/ص 181)
تلك النسمة الطاهرة التي جعلها الله أُنساً لأمها من قبل أن تولد، حيث كانت أمها السيدة خديجة الكبرى، عليها السلام، تُحدِّثها وتستأنس بها، فالرواية تقول: “لما حملت بفاطمة كانت فاطمة تحدثها من بطنها وتصبِّرها وكانت تكتم ذلك من رسول الله، صلى الله عليه وآله، فدخل رسول الله يوماً وسمع خديجة تُحدِّث فاطمة، فقال لها: يا خديجة لمَنْ تُحدِّثين؟ قالت: الجنين الذي في بطني يُحدِّثني ويُونسني! قال: يا خديجة هذا جبرئيل يخبرني إنها إنثى وإنها النسلة الطاهرة الميمونة وإن الله سيجعل نسلي منها، وسيجعل من نسلها أئمة ويجعلهم خلفاء في أرضه بعد انقضاء وحيه”. (بحار الأنوار: ج 43 ص2).
هذه النسلة المباركة الطاهرة الميمونة تستأهل منَّا أن نجعلها مثالاً وقدوة لنا في حياتنا، لا سيما بنات جنسها من النساء المؤمنات، والبنات العفيفات، فما أحوجهنَّ لمثل هذه الأسوة الحسنة في هذا العصر الأغبر، الذي تكالبت فيه الدنيا عليهن لإخراجهن من بيوتهن ومعاقلهن وحصونهن.
وهنا جميل أن نأخذها بيضاء صافية من سماحة السيد المرجع المدرسي(دام ظله) حيث يُبين لنا مقاييس الفضل والفضلية بأسلوبه الراقي وحكمته الجميلة، فيقول: “يجب أن نعرف أن الكِبر والصِّغر لا يعترف بهما الإسلام كمقياس، كما أنه لا يعترف بمقياس الأنثى والذكر بصفة عامَّة، بل المقياس المعترف به في الإسلام إنما هو الحكمة البالغة التي يفعل اللـه بحسبها ما يشاء، كما أن هناك مقياساً آخر معترفاً به في الإسلام، وهو مقياس العمل الصالح(التقوى)، وكلاَّ من المقياسين له موقعه.
فالمقياس الأول: يتحكم في الشؤون الكونية؛ أي في مرحلة التكوين، فخلق الشمس والقمر والأرض و و..، إنما هو خاضع لمقياس الحكمة (الإلهية).
وأما المقياس الثاني: فهو يجري في الأمور التشريعية، أي في جانب الاختيار الذي أصبح الإنسان بسببه مختاراً مريداً (في حياته وتصرفاته).
إلى أن يقول سماحته: (وفاطمة الزهراء، عليها السلام، يلفتنا من حياتها جانبان كلّ منهما يرضخ لمقياس، وهما:
الأول: ما نراه يحدث قبل ميلادها (المبارك) من تكوينها من فاكهة الجنة وحديثها لأمها وهي جنين، ومرافقة ميلادها حوادث خارقة، مما يدل على أن لله تعالى عناية خاصة بها من جميع الجوانب، أترى ذلك بأي مقياس؟.
فلحكمةٍ خصَّ الله فاطمة، عليها السلام، بهذه المزايا دون سائر النساء جميعاً، وبينهن بنات النبي، صلى الله عليه وآله، وزوجاته، وبنات المهاجرين والأنصار وزوجاتهن، وذلك لمحصلة شاء اللـه أن يجعل بين الأمة الإسلامية مَن تَفوق درجةً على مريم، عليها السلام، سيدة نساء عالمها أي جميع نساء زمانها.
والأمر الذي يطمئن إليه الباحث بعد مطالعة دقيقة لجميع جوانب حياة فاطمة الزهراء عليها السلام؛ هو أنَّ اللـه تعالى كما أراد أن يجعل للأمة قادة من الذكور، شاء أن يخلق لها قدوة من الإناث، لكيلا يبقى للنساء مجال للعذر عن التمسك بتعاليم الإسلام ومُثله وَقيِمه بصورة مجتمعة، بحجة أن الذين تمسَّكوا بكل ما في الإسلام إنما كانوا من الرجال وليس من النساء، وأن قوى الرجل ومواهبه وكفاءاته أكبر من المرأة.
إنّ ما تختص به المرأة من المسؤوليات الفطرية أو غير الفطرية، قد تصبح عند البعض داعياً إلى انسحابها من ميادين العمل الديني والتواني عن بعض التكاليف الشرعية، ولكن اللـه حيث جعل فاطمة ،عليها السلام، مثالاً لكل الفضائل والقيم، مع ما كانت عليها من المسؤوليات الخطيرة في تلك الظروف العصيبة، لعله أراد – سبحانه – قطع حجة أية امرأة تبرر تقاعسها عن واجباتها أنها من الجنس الضعيف.
فما حكمة خلق فاطمة،عليها السلام، بهذه الكيفية، إلاّ كحكمة خلق الأنبياء والأوصياء، بما فيهم رسول الإسلام محمد، صلى الله عليه وآله، والأئمة المعصومين، خلقهم بتلك الكيفية مفضَّلين على سائر الناس درجات، ومخصوصين بمواهب وكفاءات.
فليست حكمة عصمة الأنبياء والأوصياء وتفضيلهم، إلاّ أنهم أسوة وقدوة للناس، وأنّ على الخلق اتِّباعهم واتخاذهم مثالاً لحياتهم، وكذلك حكمة خلق فاطمة، عليها السلام، من بين النساء، وإذا كان النبيّون والأوصياء سادة الخلق، فإن فاطمة سيدة نساء العالمين.
الثاني: والجانب الآخر من حياة فاطمة الزهراء،عليها السلام، يتعلق بالآيات النازلة في حقها، والأحاديث المروية فيها عن النبي، صلى الله عليه وآله، ونتساءل لماذا وردت هذه النصوص بشأن فاطمة، عليها السلام، دون غيرها من النساء؟
والجـــواب: إنمــــا وردت هـذه النصوص وفقاً للمقياس الثاني المذكور آنفاً، وهو: أنَّ اللـه جعـــل مقيـــاس الفضيلة والرفعة عنده العمل الصالح دون النظر إلى شخص العامل وجنسه، وفاطمة الزهراء عليها السلام ، حيث أدركت هذه الحقيقة، لم تعتمد على مكانتها عند الناس بقربها إلى النبي، صلى الله عليه وآله، والوصي نسباً وسبباً، كما لم تعتمد على مكانتها عند اللـه تبعاً للمقياس الأول الذي أشرنا إليه، بل راحت تجتهد بنفسها لبلوغ الكمال العظيم”. (فاطمة الزهراء قدوة وأسوة: ص بتصرف).
فالجدير بنا أن نتَّخذ هذه النَسمة الطاهرة، وتلك النسلة المباركة أسوة لنا في تحمل المسؤولية، والقيام بالواجب الشرعي معتمدين على الله في استثمار طاقاتنا، وحياتنا، وعبادتنا لتحصيل ملاك التقوى الذي هو الميزان الأرقى عند الله تعالى، وأن ندرس تلك السيرة العطرة لسيدة النساء لنطبقها في أسرنا، وبيوتنا، وتربية أبنائنا على القيم والفضيلة قبل أن يسبقنا عليهم الكفار والنواصب – لا سمح الله – كما يجري الآن على الساحة العربية والإسلامية..
لقد أهملنا أبناءنا وأطفالنا فسرقهم منا الغرب بآلته وإعلامه الفاجر، والوهابية والنواصب بفكرها الفاسد، وتكفيرها الأمة الإسلامية كلها، واستباحتها لدمائها وأعراضها وأموالها فأخروا الأمة من دينها أفواجاً بإجرامهم الغير مسبوق، واللامعقول أيضاً.