عالَم اليوم أصبح مثل قرية صغيرة متداخلة الأجزاء، فلم تعد المسافات الجغرافية الطويلة تفصل بين الشعوب والأمم، وبسبب ثورة المعلومات والتقنيات الاعلامية الحديثة لم يعد أي مجتمع بمنأى عن التأثير والتأثُّر المتبادل – سلباً أو ايجاباً – في مجالات الفكر، والثقافة، والسياسة، والاقتصاد، ونمط الحياة والسلوك والأخلاق.
ومن جهة أخرى، فإن عالَم اليوم يشهد وجود قوى مختلفة تحاول الاستحواذ على سائر الشعوب والمجتمعات، وفرض مناهجها عليهم في كل مجالات الحياة، هذه القوى التي تملك كل أدوات التدخل والتأثير على الآخرين تهتم بسلب الأضعف منها؛ هويتهم وشخصيتهم، وتشويه صورتهم، ومسخ ثقافتهم وأفكارهم.
إنها قوى شيطانية حقاً، فهي لا تضمر خيراً للآخرين، بل تستهدف من وراء كل ذلك، ليس المسخ والتشويه في الثقافة ونمط الحياة والسلوك فقط، بل وأيضاً سلب الشعوب والأمم الأضعف إستقلالها في السياسة والإقتصاد، وعرقلة تقدمها في مجالات العلم والصناعة والانتاج، وتحويلها الى دُمى ذيلية تابعة لا حول ولا قوة ولا إرادة لها.
وفي عصرنا الحاضر يتم تغليف كل ذلك بعناوين وتسميات ذات بريق ولمعان لتغطية الحقيقة المرة، من مثل: اتفاقيات استراتيجية، تعاون دولي، علاقات دبلوماسية، منظمات دولية، هيئات اممية، برتوكولات، معاهدات، دفاع مشترك… وما الى ذلك من عشرات التسميات الأخرى التي تُظهر بريقاً خادعاً وتُبطن واقعاً مريرا، خاصة حينما تكون العلاقة بين القوي والضعفيف.
ويأتي الاعلام المركَّز الذي يمتلك أقوى الأدوات ليلعب دوراً حاسماً في التلاعب بالعقول والنفوس، وتزوير الحقائق، وقلب الوقائع، وبث الرؤى المنحرفة، وتوجيه المجتمعات نحو الهاوية من غير أن تشعر بذلك.
-
التعايش أم الخضوع؟
في مثل هذا العالَم كيف ينبغي أن نتصرَّف كأمة مسلمة لنا خصوصياتنا من فكر وثقافة وعقيدة ونمطٍ حياتي خاص؟
هل نغمض العيون، ونسير كيفما قادونا ووجهونا وفرضوا علينا؟
هل نبيع إستقلالنا وشخصيتنا وهويتنا بأبخس الأثمان؟
لو طرحنا هذا التساؤل على كتاب ربنا العزيز الذي انزله الرب الينا منهاجاً لحياتنا، وبرنامجاً لتنظيم امورنا بأفضل الوجوه، لوجدنا فيه إجابة صريحة وواضحة تعطينا البصيرة الكاملة لكيفية التصرف والموقف الواجب اتخاذه.
من بين آيات كثيرة تعالج هذا الموضوع نقرأ آيات ثلاث من سورة آل عمران تضع النقاط على الحروف في مسألة العلاقة مع الآخرين، وبالذات مع الذين يختلفون معنا في الفكر والثقافة والعقيدة.
ففي الآيتين: 100 و 149 من هذه السورة المباركة يحذِّرنا الرب من الاسترسال في العلاقة مع هؤلاء الى حد الإطاعة والرضوخ لكل مقاصدهم وأهدافهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ}.
فالقرآن لا ينهانا عن التعايش السلمي والعلاقات المتوازنة مع الذين كفروا ومع الذين أوتو الكتاب، بل التحذير هو من (الطاعة)، والطاعة تعني الخضوع للطرف الآخر، ولخططه ولأهدافه التي لا تجد في حسابها موضعاً لمصالحنا ومصائرنا وسعادتنا.
بل – كما تقول الآيتان الكريمتان وكما نلاحظ ذلك عملياً في الواقع الخارجي بشكل صارخ ومسلموس – هم يهدفون هدفين رئيسيين:
1- تغيير عقيدتنا وثقافتنا، واعادتنا الى الجاهلية والضلال: {يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}.
2- تكريس التخلف في الامة، ومنعها من شق طريقها باستقلال واعتماداً على طاقاتها البشرية لبناء حياة حرة كريمة مستقلة: {يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}، فالرد على الاعقاب يعني العودة الى الوراء، الى التخلف اكثر فأكثر، وماذا تكون النتيجة؟ يقول الرب: {فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ}.
ولم تحدِّد الآية الخسارة بالآخرة فقط، أو الخسارة المعنوية، بل العبارة مطلقة عامة، حيث طاعة القوى المعادية والدخول معها في معاهدات واتفاقيات من موقع الضعف والاستسلام لا ينتج إلا (الخسارة)، والخسارة في كل شيء، في الفكر والثقافة، في العلم والتقدم، في الدنيا والاخرة.
فلا تستطيع أيّة أمة أن تتقدم إلّا على قدميها، وليس بطاعة خصومها، ولا تستطيع أن تبني أمجادها وحضارتها إلا بالاستقلال والاكتفاء الذاتي والاعتماد على النفس والثقة بالذات، وليس بالاتكاء على العدو والاستجداء منه وطاعته في كل ما يريد.
-
حكوماتنا و الاعتماد على القدرات الداخلية
وفي الآية 118 من سورة آل عمران نقرأ تفصيلاً أكثر عن الموقف المطلوب من الأمة، وبالأخص من فئاتها السياسية والادارية والحكومية التي قد تكون هي المقصودة بهذا الخطاب بشكل أخص، قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ، لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا، وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ، قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ، وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ، قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}.
فإن كنا نعقل ونتدبَّر الأمور بشكل سليم، فإنَّ الرب المتعال قد بيَّن لنا الآيات والمعالِم التي ترشدنا الى السلوك الصحيح في هذه المعمعة.
1- ينهانا الرب من اتخاذ البطانة من غيرنا، والبطانة هم الاعوان والمستشارون، فإن البطانة من غير امتنا ومن غير إخواننا في الدين والعقيدة، يعني مجانبة العقل، إذ إن المستشار من غير المسلمين لا يشير علينا في الأغلب إلا ما فيه مصلحته هو وليس مصلحتنا، والبطانة من الكفار ومن المعاندين والخصوم لا يحملون لنا الخير ولا يتحفونا بالخطط السليمة.
2- فإنهم {لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} ولا يتوانون ولا يقصِّرون في إضراركم، لأنهم يرفضون دينكم ورسالتكم، وبالتالي لا يضمرون لكم نفعاً ومصلحة، بل:
3- {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} فهم يودّون لكم العَنَت والإرهاق والتعب والصعوبة والمشقة والأذى في الحياة. لأنهم يرون سعادتهم في شقائكم، ويرون تقدمهم في نهب خيراتكم، ويردمون نقائصهم بسلب ثرواتكم، ويبنون حضارتهم على سرقة الأدمغة والعقول النابغة من بينكم، فهم يريدونكم خلواً من كل خير ونفع.
4- وقد يقول قائل: إنها علاقات دبلوماسية متبادلة، واتفاقيات ومعاهدات مشتركة ولا ضير في ذلك، ولكن علينا أن لا ننخدع بالمظاهر البراقة والماكرة، فـ {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ}. إستمعوا اليهم عندما يتحدثون عنا وعن بلادنا في كواليسهم وبرلماناتهم ومجالس شيوخهم، عندها تلاحظون البغضاء والنوايا السيئة تظهر الى العلن.
ومع ذلك فإنَّ: {مَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ}، إن خططهم السرية المدمِّرة هي أخطر بكثير مما نراه من البغضاء على أفواههم. إنهم – بكلمة – يريدون لنا أن لا نكون، وإذا كنّا أن نكون أذلّاء خانعين لهم مفقودي الارادة والشخصية والكرامة.
وهكذا فإن الرب المتعال بينَّ لنا الآيات والمعالم ووضع النقاط على الحروف، وعلينا نحن أن نعقل ونختار ما يضمن مصالحنا وما يمكِّننا من بناء مستقبلنا باستقلال وكرامة: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}.