خلق الله تعالى الانسان و أودع في فطرته عدد من الميول والرغبات التي لا يمكن الانسلاخ عنها، او سلبها منه بالقوة، فهي متأصلة في ذاته، وهذه الميول والغرائز كثيرة، منها حب المال وجمعه، والشهرة، وحب البقاء، وحب التملك، وحب السلطة.
ومن الغرائز التي جُبل الانسان عليها؛ حب المال، والحصول عليه، والسعي الى جمعه و ادخاره، إلا أن الاسلام حدد وسائل مشروعة للتكسّب والحصول على الاموال، فليس كل طريق مفتوح للحصول على المال، فالربا –مثلاً- او الاحتيال، والاحتكار، صدر النهي القاطع عنها في الشريعة الاسلامية.
وعندما تسنّم أمير المؤمنين، عليه السلام، قيادة الامة “سياسياً”، شرع في تقويم ومعالجة الكثير من الظواهر الاجتماعية والحالات النفسية في المجتمع الاسلامي، ومنها؛ الميل الجامح الى المال والامتيازات، فقد أعلن بشكل قاطع عن إلغاء جميع الامتيازات التي كان يتمتع بها اشراف و وجهاء قريش دون غيرهم من المسلمين، فالخلافاء الثلاثة سعوا الى جعل العنصر القَرَشي أعلى من غيره، كما جعل العربي أفضل من غيره، ومن هنا بدأت الطبقية في الاسلام، لكنّ أمير المؤمنين، سعى الى إزالة هذه الامتيازات عبر التطبيق العادل في توزيع المال العام.
فبعد توليه، عليه السلام، لمنصب الخلافة “السياسية”، مع وجود الخلافة الدينية –السماوية، جاءه طلحة والزبير بن العوام، يساومانه قائلين: “نبايعك على أنّا شركاؤك في هذا الامر، فقال: لا”، ولم تمضِ إلا أشهر حتى أعدّا العدة للانقلاب عليه، وإعداد جيش لشن حرب ضروس سُميت في التاريخ بحرب الجمل، راح ضحيتها الآلاف من المسلمين، فداءً لنزوة الامتيازات لا غير.
-
الامام علي والتوزيع العادل للثروة
كما سبق؛ فان الطبقية التي سُنت في عهد الخليفة الثاني، أحدثت نوعاً من الطبقية بين المسلمين، مما سبب فجوة اقتصادية ومعيشية بين الناس، ومن ثمّ ضياع حقوق كثير من الفقراء والمعدمين، وتكدّس الثروة عند طبقة دون أخرى، حتى ان التمييز وصل الى داخل بيت النبي الاكرم، صلى الله عليه وآله، فكانت عائشة وحفصة تأخذان اكثر مما تأخذه أية امرأة من نساء النبي الاخريات!
لذا يمكن القول: أن العدالة الاجتماعية كانت مهددة بالصميم خلال فترة حكم “الثلاثة”، لذا اتسمت فترة حكم أمير المؤمنين، باعلان الحرب على الطبقية والباحثين عن الامتيازات، فقد ساوى بين القرشي وبين سائر العرب، وبين العربي وسائر المسلمين من مناطق العالم المختلفة، شعاره الوحيد؛ التقوى، تجسيداً للآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.
وكان من الطرق والآليات التي دأب عليها أمير المؤمنين معالجة قضية الامتيازات، هي تذكيرهم أن هذه الاموال ليس اموالاً خاصة بأي شخص، فيمكنه أن يستفيد منها على حساب الآخرين، ولهذا تجد اكثر كلام الامام علي، عليه السلام في التأكيد على حقوق المساكين والمحرومين، فمن كلامه النابع من صميم الانسانية، والذي يحمل همَّ رعيته يقول عليه السلام: “هيهات ان يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة. ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حرى”.
مِن هذا المنطلق كان الامام يربي اصحابه على الغاء امتيزاتهم كونهم قادةً في الجيش، او امراء على الولايات، حتى اقرب المقربين اليه، كأخيه عقيل ابن ابي طالب الذي كان يعاني شظف العيش وكثيرة العيال، فقد جاء مرة اليه وقال له: اني صاحب عيال وانت أمير المؤمنين.
فقام الامام واخذ حديدة ووضعها على النار حتى احتمت، ثم قربها من عقيل.
فقال عقيل: اتريد ان تحرقني بالنار؟
فقال الامام علي :ثكلتك الثواكل يا عقيل، أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه، وتجرني إلى نار سجرها جبارها لغضبه. أتئن من الأذى ولا أئن من لظى!.
ومن هنا لم تسجل صفحات التأريخ أي امتياز لأي أمير او قائد من اصحاب الامام علي، عليه السلام، فقد رباهم على ان المالَ مال الله، والخلق عياله، وانما نحن – كحكام امناء الله على حلاله- لايصاله الى مَن يستحقونه.
ومما يذكر من عدالة أمير المؤمنين في الغاء الامتيازات القومية والعنصرية، أن امرأتان أتت اليه عند القسمة إحداهما من العرب والأخرى من الموالي، فأعطى كل واحدة منهما خمسة و عشرين درهما، و كَرَّاً من الطعام فقالت العربية: يا أمير المؤمنين إنّي امرأة من العرب، و هذه امرأة من العجم!! فقال، عليه السلام: “والله لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفئ فضلاً على بني إسحاق”، ولهذا لم تعد للامتيازات والانتماءات العشائرية او القومية مكاناً في حكومته، عليه السلام، حتى الاسبيقة الى الاسلام، و التي رفعها طلحة والزبير حُجّة للحصول على امتيازات معينة في الدولة العلوية، لم يقبل بها الامام، وعندما أتيا يطلبان التفريق والتفضيل بالعطاء قالا له:
“إنّا أتينا إلى عمالك على قسمة هذا الفئ، فأعطوا كل واحد منا مثل ما أعطوا سائر الناس”
فقال عليه السلام : و ما تريدان؟
قالا: ليس كذلك كان يعطينا عمر.
قال: فما كان رسول الله يعطيكما؟ فسكتا.
فقال الامام علي: أليس كان يقسم بالسوية بين المسلمين من غير زيادة؟ قالا: نعم.
قال: أفسنّة رسول الله أولى بالإتباع عندكما أم سنة عمر؟!
قالا: سنّة رسول الله، و لكن يا أمير المؤمنين لنا سابقة وغناء وقرابة، فإن رأيت أن لا تسوينا بالناس فافعل.
فقال أمير المؤمنين، عليه السلام: سابقتكما أسبق أم سابقتي؟
فقالا: سابقتك.
فقال الإمام: فقرابتكما أم قرابتي؟
قالا: قرابتك.
قال الإمام: فغناؤكما أعظم أم غنائي؟
قالا: غناؤك.
فقال الإمام: فوالله ما أنا و أجيري هذا إلا بمنزلة واحدة، و أومئ بيده إلى الأجير”.
-
هل نستفيد من التجربة؟
مما لا شك فيه ان كل مَن يصل الى السلطة في بلادنا الاسلامية، وفي أي موقع منها، فإنه يسعى للحصول على امتيازات خاصة ينفرد بها عن غيره من الناس، فالمسؤول في زماننا هذا، ما إن يصل الى منصب معين، حتى يبدأ بالسعي الى الحصول على الراتب الاعلى، ويسعى ايضا للحصول على امتيازات خاصة لا يحصل عليها موظف او مواطن عادي، تمكنه من تشييد العقارات، وامتلاك الاسهم في المصانع، واقتناء افضل السيارات، وغيرها من الامتيازات الفاحشة، التي يقاتلون من أجلها في ظل أنظمة مشبهة بالديمقراطية، ومن خلال أصوات الناخبين المغلوب على أمرهم، والطامحين لحياة افضل. جنسية بريطانية او امريكية او كندية، ليضمن لنفسه وأهله ـ العيش الكريم ـ خارج البلد، اذا لم تستتب كان وضع الدولة مقلق وغير آمن، فهو مستعد للرحيل في أقرب مشكلة اجتماعية، كالمظاهرات المطالبة بالحقوق المشروعة، وهذا هو حال حكامنا في دولنا العربية، فعقاراتهم بملايين الدولارات في باريس وسويسرا، ويتركون شعوبهم تقاسي ألم الجوع والحرمان، وصدق الامام علي عليه السلام، حين قال: ” ما جاع فقير الا بما مُتّع به غنيّ”
إن الامتيازات الخاصة التي يقوم بها المسؤولون في بلادنا تكون نتيجتها الحروب، واشعال الفتن بين الحكومات وبين الشعوب، فالجرائم التي تتكرر في اوساط المجتمع هي نتجية الحرمان الذي مُني به أبناء هذا المجتمع، فعندما يرى الفقير أن هناك من يكدّسون الثروة على حساب فقره، فإن ذلك لن يدع حجراً على حجر.
إنّ التوزيع العادل للثروة هو ضمان للقضاء على البطالة المستشرية في مجتمعمنا العراقي، فالعراق ليس بلد فقير، فهو يمتلك موارد مالية خصوصا من قطاع النفط، فلو اُخرجت حصة معينة من هذه الاموال، فإنها ستكون بداية خلاص للخروج من الازمة الراهنة.