{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .. (آل عمران:200) هذه الآية الكريمة هي خاتمة سورة آل عمران.
وهذه السورة (تتحدث عن الأمة الاسلامية كتجمع مبدئي يتمحور حول الايمان بالله والحق)، وتتطرق الآيات المئتان فيها عن بناء الأمة ومقوماتها وصراعاتها مع المنافقين والمناوئين والاعداء.
ونستلهم من مجموع هذه الآيات أنَّ الاعداء الرئيسيين للأمة هم: رؤوس الكفر والشرك (كقوى سياسية ذات مصالح تتعارض مع وجود الأمة)1، اضافة الى اصحاب المال والثروة (الذين يرون في مبادئ الإسلام وقوانينه عقبة في طريق أهدافهم الاستغلالية) بالتحالف مع الأحبار، وهم رجال الدين المزيّفون الذين يشكلون الغطاء الديني للفريقين الماضيين.
إنَّ التحالف بين هذه القوى الثلاث، كان – ولا يزال – يؤجِّج صراعات مختلفة وبشتى المعاذير ضد الأمة الإسلامية لإشغالها عن الاهتمام بتحقيق أهدافها الرسالية في بناء الحياة الطيبة والرفاه والتقدم الحضاري لأبنائها.
أما الأمة الإسلامية فإنَّ المطلوب منها أن تكون على حذر دائم من السقوط في فخاخ العدو، وأنْ تحارب على جبهتين في آنٍ واحد: الجبهة الداخلية لبناء حضارتها القائمة على قيم الحق والايمان، وجبهة الدفاع عن كيانها ووجودها متحديةً التحالف المذكور بين قوى الشر.
والآية الكريمة التي تلوناها – وهي آخر آية في سورة آل عمران – تتطرق بايجاز شديد لوظائف الأمة في هذا الصراع المرير.
إنها توصي المؤمنين بأمور أربعة إذا ارادت الفلاح والنجاح والانتصار:
1- الصبر
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا} والصبر في ثقافة القرآن لا يعني الاستسلام للضغوط ومواجهة التحدياث بالسكوت والانتظار السلبي للفَرَج، فإن الفَرَج لا يأتي للمجتمع الخانع السلبي المنطوي على نفسه، إنما (الصبر) – في قاموس الدين والمتدينين – يعني الاستقامة (عدم التهرب من المواجهة) والمقاومة (عدم السكوت على الظلم) والتحدي (التخطيط والعمل لدحر العدو واجهاض مخططاته دون كلل وملل) وبكلمة: تحمل المشاق والصعوبات لتجاوزها والوصول الى الهدف المنشود.
والحديث الشريف عن رسول الله (ص) يقول:
(الصبر ثلاثة: صبرٌ عند المصيبة، وصبرٌ على الطاعة، وصبرٌ عن المعصية)2
فالصبر عند المصيبة والبلاء هو الاستقامة، والصبر على مصاعب الطاعة هو المقاومة، والصبر عن المعصية هو التحدي.
2- المصابرة
ثم تقول الآية الكريمة: {وَصَابِرُوا}. والمصابرة تعني أن يوصي أحدهم الآخر بالصبر والاستقامة، فهي تعني – فيما تعني – بث الروح الايجابية في المجتمع، فليس المطلوب من المؤمن الرسالي أن يصبر هو فقط، بل عليه أن يصابر الآخرين ويدعوهم الى منهجية الصبر.. يدعو الجميع: بدءاً من الأسرة الصغيرة، الى العائلة الأكبر، الى دائرة القبيلة والعشيرة، والمجتمع كله، وربما كان ابرز مصاديق المصابرة – اليوم – يتجلى في الاعلام الايجابي الذي يبث روح الإستقامة والتصدي في الأمة، ويواجه برامج العدو الاعلامية والحرب النفسية بما يجهضها ويرفع معنويات الأمة.
ويجدر بنا أن نشير الى أنَّ من أهم اركان الايمان هو (التواصي)، إذ أن النهج الرباني لا يقتصر على اهتمام الإنسان المؤمن بنفسه فقط، بل من واجبه أيضاً الاهتمام بالآخرين ممن هم حوله لتغييرهم باتجاه الصلاح والإصلاح، لذلك نقرأ في سورة العصر: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}، ونقرأ في سورة البلد: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}. فالتواصي بالحق والصبر والمرحمة هو من اركان الايمان الاساسية، وهو ضمان استمرار الصلاح والإصلاح والتغيير نحو الأفضل في الأمة.
3- المرابطة
وبعد الامر بالصبر والمصابرة، يأمر الله تعالى المؤمنين بالمرابطة: {وَرَابِطُوا}.
والمرابطة هي الإستعداد التام لمواجهة العدو، والانضباط في العمل والتحرك، وطاعة القيادة، والاهتمام بحفظ الحدود، والدفاع عن الثغور، فالتهاون بهذه النقطة يؤدي الى انهيار دفاعات الأمة أمام زحف العدو الغادر، وتجرّي الاعداء على التمادي في انزال الضربات تلو الضربات بمصالح الأمة.
ولا شك ليس المقصود من حفظ الحدود والثغور الحدود الجغرافية المرسومة على خارطة تقسيم الدول فحسب، بل الأهم من ذلك المرابطة للدفاع عن الحدود والثغور الفكرية والثقافية والأخلاقية للأمة.
ففي عصور مضت كان الخطر الأكبر هو مهاجمة حدود البلاد الإسلامية وغزوها عسكرياً، وبسقوط المرابطين على الحدود كانت الأرض الإسلامية تُستباح طولاً وعرضا. أما اليوم فان الخطر الأكبر هو الغزو الثقافي، والهجوم الفكري، والحرب النفسية. والمرابطة تعني إهتمام الجميع بالتحصن والتحصين ضد هذه الأخطار، وهكذا فان مواقع المرابطة اليوم لا تقتصر على مقصورات المراقبة على الحدود الجغرافية للبلاد، بل مواقع المرابطة تشمل الاعلام بكل اشكاله، والمدارس والجامعات، والمراكز العلمية والتربوية والثقافية، وكل قاعدة وموقع يلعب دوراً في شحذ أو تثبيط عزائم الأمة، في صقل أو تعتيم ثقافة الأمة، في بلورة أو تسويد فكر الأمة.
4- التقوى
وأخيراً تؤكد الآية الكريمة: {وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فالصبر، والمصابرة، والمرابطة، تصبح أصفاراً على الشمال ما لم تستند الى التقوى.
(وَاتَّقُوا اللهَ) تعني – فيما تعني -: لا تضعفوا، ولا تهنوا، ولا تتراجعوا، ولا تخشوا غير الله، ولا تغريكم بهارج الدنيا وبريق الدرهم والدينار. لا تبيعوا رسالتكم بالمال والحطام. لا تنهاروا في الحرب النفسية التي يشنها العدو عبر ابواقه الاعلامية في كل الفضاءات الحقيقية والافتراضية. اتقو الله وكونوا كالجبل لا تحركه العواصف ولا تزيله القواصف.
إن تهديدات العدو هي أضخم بكثير من واقعه، انه يريدكم أن تتراجعوا عن المواجهة لكي تخلو له الساحة فيغزوها بلا عقبات.. اتقوا الله، لأن في التقوى فلاحكم ونجاحكم وانتصاركم: {وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
—————————–
1- مقاصد السور في القرآن الكريم – المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي.
2- الكافي، ج2، ص91.