إذا ما تتبعنا الحكومات الظالمة على مر التاريخ نجدها قد استخدمت أسلوباً متشابهاً ومتعدد الأشكال في تكميم الأفواه، وتضليل الرأي العام وقمع المفكرين والمثقفين والمصلحين، لكي يبقوا الناس في حالة غيبوبة سياسية، ويعمدون على إبقائه على عدم البَيِّنَةٍ بمشاكل البلاد وأسبابها، ولا فرق في ذلك سواء أ كانت الأقلية هي الحاكمة والنظام دكتاتورياً، أم تمثيل الأكثرية بديمقراطية شكلية يمثلها أشخاص وأحزاب لا يمتّون إلى الدين والوطنية والمصلحة العامة بصِلة، وربما نجدهم يعتمدون نظاماً انتخابياً بقوانين تخدم مصالحهم ولا ينفع معه حتى عزوف الأغلب من الناخبين، وبقوانين تابعة لمفوضية الانتخابات لم تكن بالمستوى المطلوب، وبدستور يحمل بين طياته قوانين ترى الأساسية منها الخاصة بمصير البلاد، إما جامدة أو مترهلة والتي من الأفضل أن تكون مرنة بشكل معقول بين الجمود والترهل، أو ملغومة أو غير مفهومة ترسل أغلبها للمحكمة الاتحادية للبيانها.
وقد مر على الشعب العراقي النموذجين؛ حكم الدكتاتورية المتمثلة بحزب البعث الذي انتهج التغييب الجماهيري وتكميم أفواه المثقفين وإعدام المعارضين من حملة مشعل الوعي والثقافة الأصيلة، وايضاً؛ نظام الحكم الجديد الذي جاء على أنقاض ديكتاتورية حزب البعث، بظهور حكم الأحزاب التي راحت هذه المرة تنخر في جسد البلد وتستمر على نهج التحايل متعكزة زوراً على الدين تارة وعلى التراكمات للحكومات السابقة تارة أخرى، لكي تسرق وتعبث بما يحلو لها الأمر الذي يدفعها لأن تبقي هذا الشعب مغيباً تماماً، لأنه لا يمكن أن يتم مشروعهم المصلحي بالحصول على المناصب والمال إلا من خلال سياسة التجهيل وتضليل الرأي العام، ونشر الفقر ليكون هم الفرد الواحد وتفكيره هو كيفية إعالة أسرته حتى وإن كان يعيش في ظل دولة غنية كدولة العراق النفطية والمتعدد الخيرات.
ورغم كل ذلك فقد أثبت الشعب العراقي بأن أساليبهم تلك لم تكن نافعة معهم لأنه شعب واعٍ وقريب من التشخيص الدقيق، وشعب شجاع لا يقبل بالضيم والقهر وهذا ما أكدته مواقفه في عزوف عدد كبير من الناس عن الانتخابات الأخيرة، ومن ثم اندلاع التظاهرات والاحتجاجات منذ مطلع شهر تشرين الثاني، وما نزال نعيش أيامها، بما يعبر عن عمق الوعي لدى الجماهير العراقية، وقد تعددت صور هذا الوعي والتي منها:
-
الوحدة الوطنية وثقافة الشعب:
لقد اتضح جلياً للقاصي والداني ما لهذه التظاهرات من تحلّي أفرادها بوحدة وطنية بين كل أطياف المجتمع وتحليه بأخلاق عالية، وهذا يدل على أن هذا الجيل يمتلك أرضية الأخلاق العالية تتضح سماتها في الأزمات بشكل خاص، فقد رأينا الصبر والشجاعة التي رافقتهم مع إصرار على المطالبة بالحق متحدين بذلك الموت وكيف لا وقد وقف آباء هذا الجيل بوجه الطغاة، أمثال صدام اللعين ووقوف أخوانهم ضد داعش وهزمهم، مستمدين هذه الأخلاق من ثورة أبيّ الضيم الإمام الحسين ،عليه السلام، فأصبح غاز المسيل كاللعبة بين أيديهم بشجاعة قل نظيرها في بقاع العالم، وكذلك الكرم والتعاون بين الأفراد والجماعات كالبنيان المرصوص.
-
التنظيم:
الملاحظ أن مظاهر التنظيم رافقت هذا الحراك من خلال إصرار المتظاهرين على أن تكون حركتهم سلمية بشكل تجمعات كبيرة، ونقل صورة حضارية قلَّ وجود أمثالها في بلدان الدول المتقدمة، مما يدل على وعي عالٍ لهذا الشعب، وإذا أصّلنا لهذا التنظيم نجد صورة مشابهة له قد التقطت في الزيارات المليونية للأئمة المعصومين، عليهم السلام، ولاسيما زيارة أربعين الإمام الحسين، عليه السلام، عندما يجتمع الملايين من الزائرين ضمن مسيرات طويلة مشياً على الاقدام ولمسافات طويلة، وبانسيابية بفضل وجود المواكب الخدمية والطبية ومراكز المفقودين وغيرها.
هذه التجربة ألهمت المتجمهرين في ساحات التظاهر روح التنظيم لأنفسهم تلقائياً وسط التجمعات الهائلة، ودخول نفس تلك المواكب الخدمة والمفارز الطبية لهم وحتى مراكز المفقودين، ولكن هذه المرة بهدف مساندة الحراك المطلبي للإصلاح كما شهدناه نسخة منه في ساحة الاعتصام (ساحة التربية) في كربلاء المقدسة، وايضاً؛ في ساحة التحرير ببغداد، حيث يجدد العهد فيها الموالون للإمام الحسين عليه السلام، في السير على نهجه برفض الظلم والفساد، الأمر الذي تحقق فعلياً بخروج الشعب ضد الفساد والظلم، وهم يحققون بذلك أهداف ثورة الإمام الحسين ،عليه السلام، الذي ثار ضد من يدعون الدين كذبا و زورا.
وإذا أمعنا النظر فإننا نجد إن هذا الوعي لم يكن وليد صدفة، بل انتشر بفضل المخلصين من المفكرين والتظاهرات السابقة، وبفضل تقنية الاتصال الحديثة التي أصبحت أداة للتحاور وطرح الآراء، على الرغم من محاولة استغلالها من قبل الحكام بزرع الجيوش الالكترونية التي تغيّب الرأي العام، ببث أخبار بعيدة عن الواقع، وهذا الوعي هو الذي قاد للتظاهرات التي تحمل بين طياتها حقوق هذا الشعب المسلوب الحقوق، ليحسن اختيار من يضعون ثقتهم به ليمثلهم ويبعدون كل من لا يريد لهم الخير، وما رأيناه في تظاهرات اكتوبر يمثل قمّة الوعي لدى الأمة بكل فئاتها وأعمارها، فالكل سمع صوت النقابات بخط موازٍ لصوت الحق في التظاهرات، كنقابة المعلمين وغيرها في ظل تهديدات قاسية من قبل الدولة لهم اذا ما استمروا على الإضراب، بل أصروا على تنظيم وقفات احتجاجية للكادر التعليمي والتدريسي مع التلاميذ والطلبة في ساحة الاعتصام، أو داخل المدارس ليأخذوا درساً عمليا في الوطنية واستيقاظ الجيل مبكرا للوعي السياسي بعد إصرار الفاسدين على جعلهم في حالة من الغيبوبة السياسية، ليشخصوا مبكرا مَن ينفعهم عمن يضرهم، كما رأينا هذا الوعي عند الشباب والفتية الذين كانت همتهم وأملهم كبيرين يتناسبان وحجم إصرارهم وتفانيهم، فقد رأينا اولئك الشباب كل يعمل باختصاصه بخدمة المتظاهرين السلميين، وحتى أصحاب الدخل المحدود كأصحاب (التك تك) والذين أصبحوا ايكونة خاصة لهذا التظاهر بمواقف أصحابها البطولية في إسعاف ونقل المتظاهرين.
ومن هنا يمكن القول بأن الشعب العراقي إذا استمر بهذا المستوى من الوحدة والتنظيم والوعي، سوف يبشر بولادة قيادات وطنية جديدة، عاجلاً أم آجلاً، فإن هذه التظاهرة وإن لم تتحقق فيها كل المطالب، فإنها حققت مطلباً أساسياً وهو وعي المجتمع السياسي، ونبذ التفرقة التي زرعتها الأحزاب وعاشت عليها ردحاً من الزمن، وسوف لا تنطلي عليه بعد ذلك ألاعيبهم لأن الثقة بين الشعب والدولة أصبحت مفقودة، مما أدى إلى طلاق الشعب لحكوماته المتعاقبة ثلاثاً بعد منحها أكثر من فرصة، وقد يكون طلاقاً رجعياً تحت شروط تجبرهم على اتساع دائرة خدمتهم في مجال التعليم، والصحة، والبنى التحتية والعيش الكريم، لأن الشعب هو صاحب العصمة والقرار باستمرارهم أو نبذهم إذا ما أصبح يداً واحدة وذا وعي كبير في تشخيص الوضع السياسي كالذي رأيناه وبهذا يصبح المجتمع حياً لا يمكن أن يموت ويتلاشى ولا يمكن أن يتنازل عن هويته الوطنية العراقية.
ومن هنا لا بد للحكومة من عدم استخدام اسلوب التجاهل في خطابها واسلوب النفي والإنكار، لما يحصل من قتل وإذا ما أرادت أن تُحسَن عاقبتها السياسية فلا بد من إصلاحات جوهرية تشمل النظام الانتخابي بتغييره الى نظام الانتخاب الفردي، وبإشراف على الانتخابات ممن يأمن بهم على العراق لا بالمفوضية الحالية وكذلك بإعادة فقرات الدستور الملغمة، وإلا فإن الشعب العراقي مستمر وهذه هي الحلقة الأخيرة لمسلسل حكومات الأحزاب مهما حاولوا تأجيل بث تلك الحلقة التي تدور أحداثها بنهايتهم و بالتوجه نحو المسير الصحيح سواء تحقق ذلك في هذا العام أم الأعوام القادمة.