قبل نصف قرن من الزمن كان القرآن الكريم كتاب المقابر، يُتلى على الأموات بحثاً عن الثواب ليس أكثر، وكان القليل من الناس يُجيد قراءة كتاب الله، والأقل كان يحفظ آياته أو بعضاً منها.
أما اليوم، فقد أصبحنا -والحمد لله- نشاهد الكثير الكثير من حلقات تعليم قراءة القرآن وتحفيظه، وتعليم الأطفال الترتيل والتجويد، وذلك في المساجد والمدارس والحسينيات والمراكز التربوية.
ولكن؛ هل هذا هو كل الإهتمام المطلوب بالقرآن؟ وهل القرآن هو مجرد كتاب للتلاوة والترتيل؟ وهل هو كتاب الإستشفاء به فقط؟ وهل هو كتاب الإستخارة لا غير؟ أم هو كتاب مجالس تكريم الأموات؟ أو هو كتاب التبرّك به عند الإنتقال لبيت جديد، وعند الزفاف، وعند السفر، وللتعليق في السيارة للحفظ؟ وهل القرآن هو فقط للكتابة على الجدران، وحفر بعض آياته على القلائد الذهبية وتعليقها على الصدور؟
هل حقاً هذه هي كل فوائد القرآن الكريم؛ هذا الكتاب المنزل من الله –تعالى- والذي يصفه رب العالمين بأنه: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}، و{هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}، و{هُدًى لِلنَّاسِ}، و {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً}؟
إنّ هذه الآيات، وعشرات غيرها تبيّن بوضوح أنّ القرآن الكريم هو خارطة الطريق لحياة الإنسان، فيه البصائر والهداية وشفاء القلوب؛ فيه برنامج السعادة في الدنيا والفلاح في الآخرة.
فإذا كان كذلك -وهو كذلك- إذن؛ هل يصح أن نكتفي بتلاوته وترتيله وتجويده والتبرك السطحي به فقط؟
إنّ القرآن نفسه يدلّنا كيف علينا التعامل معه:
1- القراءة هي الخطوة الاولى للتعامل مع أي نصٍ مكتوب: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ}، (سورة المزمل، آية20)
2- أن نبعد الشيطان، ونبتعد عنه عند قراءة القرآن حتى لا يحرِّفنا عن معانيه وبصائره السامية الى الإهتمامات الجانبية: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}، (سورة النحل، آية98).
3- أن نستمع له وننصت عند قراءته، لأنَّ هذا مقدمة ضرورية للفهم والتفكير في النص: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. (سورة الأعراف، آية204).
4- علينا أن نتذكر بالقرآن الكريم، أي أن نجعله المقياس الذي نعيد اليه كل الأمور ونوزنها بمعاييره: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا}، (سورة الإسراء، آية41). {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}، (سورة الزمر، آية27).
5- التدبّر في القرآن الكريم -وهذا من المفردات الهامة في التعامل مع القرآن- لاستنباط مفاهيمه وبصائره مقدمة للعمل بها: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}، (سورة محمد، آية24)، {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}، (سورة القمر، الآيات:17-22-32-24)، {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}، (سورة ص، آية29).
6- إتباع الكتاب والعمل به: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، (سورة الأنعام، آية155).
وهذا هو في الحقيقة أهم نقاط التعامل مع القرآن، إذ القرآن الكريم ليس هو إلّا كتاب عمل، إنه برنامج البشرية للتقدم والسعادة، لذلك علينا ان نتجاوز مرحلة الإكتفاء بالتلاوة والحفظ فقط، لنغوص في أعماق آيات الكتاب ونستلهم منه البصائر والرؤى وبرامج الحياة الموفّقة، والعيش السليم، والحياة الطيبة.
القرآن الكريم خارطة طريق الحياة الطيبة
قبل نصف قرن من الزمن كان القرآن الكريم كتاب المقابر، يُتلى على الأموات بحثاً عن الثواب ليس أكثر، وكان القليل من …