منذ توليه رئاسة الوزراء، وعادل عبد المهدي يقضي أيامه في منصبه بهدوء منذ الاشهر الاولى من هذا العام، ولم تكن ثمة حراكاً معارضاً من الجماهير على ما يعيشه من محن وأزمات ربما أعتاد عليها، ففضل قضاء ساعات الصباح حتى المساء لكسب قوت اليوم، فيما التلاميذ الى مدارسهم، والطلبة الى مدارسهم وجامعاتهم، والموظفون الى دوائرهم الحكومية، والاسواق كما هي تتحرك بصورة طبيعية، في الوقت ذاته، لا مبادرة نوعية من رئيس الوزراء الجديد باتجاه تغيير الواقع الفاسد، وتقديم برهان ملموس للشعب بانه جديرٌ بتحقيق العيش الكريم لهم.
ولكن! على حين غرّة أعلنت الحكومة قراراً مفاجئاً ليس بتقليص الامتيازات والرواتب العالية التي تمتصّ قوت الناس، كما تنبه اليها البرلمان اليوم، وليس بتوفير فرص عمل للخريجين كما فعلت فيما بعد، وإنما اتجهت بشكل غريب صوب البائعين المتجولين في بغداد والمحافظات تحت شعار “رفع التجاوزات”، وبعيداً عن السجال القانوني، وأين تكمن حقوق الناس في هذا المجال؟ نركز على الجانب الفني في التعامل مع هذه القضية المتعلقة بالعمل واساليب التكسّب التي تظهر على السطح بشكل طبيعي في أي نظام حكم يفتقر الى السياسات الاقتصادية العادلة، ففي الوقت الذي بات طبيعياً في العاصمة بغداد وسائر الحافظات، احتلال الأرصفة من قبل المحال التجارية، وحتى بعض المطاعم، والورش الصناعية، مثل الحداد والنجار والزجاج وغيرهم كثير دون أن يتعرض لهم أحد، شهدنا حملات شعواء على الباعة المتجولين، أصحاب “البسطيات”، وحتى بائعي الخضار والفاكهة في الاحياء البعيدة ممن يفترشون الأرض في ساعات الصباح فقط لكسب لقمة العيش.
ولم تمض أيام، حتى سمعنا وبشكل مفاجئ ايضاً، حملات الهدم وإزالة البيوت فيما يعرف في العراق بـ “التجاوز”، او بيوت العشوائيات، وبنفس الشعار القانوني بأنها تحتل مساحات من الاراضي الحكومية الواقعة ضمن التخطيط العمراني لتكون ساحة خضراء، او شارع، او مؤسسة حكومية وما أشبه ذلك.
هاتين المبادرتين البائستين من الحكومة ليس فقط لم تثمر عما كانت تتوقعه، وإنما عمّقت عدم الثقة والكراهية في نفوس العراقيين أكثر مما كان في السنوات الماضية، وكانت الصدمة عندما بادر الشعب، ومن قبل ابناءه الطلبة من حملة الشهادات العليا، للتحرك في الشارع مطالبين بفرص عمل تستثمر قدراتهم العلمية وتؤمن لهم العيش الكريم، فكان الجواب بما لم يتوقعه أحد، حيث واجهتهم قوات “مكافحة الشغب” بالمياه الشديدة لتفريقهم في تظاهرة احتجاجية أقاموها ببغداد.
هذا التدرج في الأخطاء الكارثية قلل من هيبة الدولة والحكومة أمام الناس، ومهّد الطريق من حيث لا تريد لاندلاع التظاهرات الاحتجاجية الواسعة التي تعمّ بغداد ومدن الوسط والجنوب، في حين كان الأجدر بها العمل على تعزيز ثقة الناس بها في خطوة أساس للمضي قدماً في تحقيق جملة من المشاريع التنموية التي طالما تحدث عنها رئيس الوزراء في الفترة الماضية، فما فائدة الاستثمارات الخارجية، وتوظيف جزء من جيش العاطلين، عندما تخرج قرارات من وزارة الداخلية الى قوات مكافحة الشغب باستخدام العنف ضد المتظاهرين، لاسيما في العاصمة بغداد.
ولذا نجد أن جميع القرارات والاجراءات التي اتخذها عادل عبد المهدي من اجل استيعاب التظاهرات الاحتجاجية تم تجاهلها من قرب المتظاهرين، بدأت في قرارات منع التوجه الى ساحة التحرير في بغداد طيلة الايام الماضية، الامر الذي تسبب الى احتقان في الشارع، فالماء الذي يتم حجزه في مكان لابد أن يتصاعد وينتشر هنا وهناك، فكانت المواجهات الدامية، والتوظيف الاعلامي الغريب بفضل مواقع التواصل الاجتماعي التي تحولت الى وسيلة اعلامية متعددة الوظائف. وبالرغم من كل ما حصل من إراقة دماء وتوتر واضطراب، وصل المتظاهرون الى ساحة التحرير وبدأوا تجمعهم منذ أيام، كما لو أن ثمة شرطاً لهذا الحضور وهو سقوط كل أولئك الشباب برصاص القناصين والمجهولين ويكونوا ضحية لعبة مخابراتية قذرة.
ويتكرر الأمر في مسألة الاضرابات التي بدأتها الجامعات والمدارس، حيث حذرت وزارة التعليم العالي من مغبة التحريض على الاضراب والتظاهر والاستمرار في الدراسة، كما فعلت الشيء نفسه، وزارة التربية بالنسبة للمدارس، وقد عضدهم رئيس الوزراء بتأكيدات مشددة أرفقها بعقوبات لمن يخالف القرار، مع كل ذلك حصل الاضراب يوم الثلاثاء في الجامعات والمدارس بدعوة من نقابة المعلمين بالنسبة للمدارس، ثم الطامة الكبرى في الاصلاحات القانونية فيما يتعلق “بقانون رواتب وامتيازات رفحاء”، وايضاً؛ “امتيازات ورواتب الرئاسات الثلاث”، فالشعب ضجّ طيلة السنوات الماضية من شدة الاستنزاف من قوت يومه ليبتلع عدّة قليلة مليارات الدنانير رواتب وامتيازات، فعندما سمعنا بالتصويت الجديد من نواب البرلمان تبين أنهم صوتوا فقط على “الامتيازات”، ولم يذكروا الرواتب التي هي مركز الورم الخبيث.
حكومة عادل عبد المهدي بحاجة اليوم الى خطوات إصلاحية تضرب في الجذور، وإن كانت بشكل تدريجي على أن تأخذ الطريق العمودي وليس الأفقي، هكذا اصلاحات سيكون لها أثر في الواقع الاجتماعي دون شك، مثل توفير فرص عمل للخريجين، وبناء المجتمعات السكنية الواطئة الكلفة في جميع انحاء العراق لتوزيعها على المستحقين وبالتقسيط المريح، وقبل هذا كله؛ تحسين الواقع الخدمي في عموم العراق من حيث الماء والكهرباء والطرق والأبنية المدرسية، حيث من المعيب أن تكون مدينة عالمية مثل كربلاء المقدسة، فيها طرق ترابية وعرة حتى اليوم، ومدارس مكتظة بالتلاميذ. نعم؛ هنالك أعمال جارية لتعبيد الشوارع ونشر المساحات الخضراء وزرع الفسائل والتشجير، بيد أن هذا يجب ان يعمّ جميع انحاء المدينة، وايضاً سائر المدن، وليس فقط مركز المدينة والى جانب الفنادق والشركات التجارية.
الإصلاحات تبدأ بخطوات عملية تتخذها الحكومة بضغط من الجماهير في تظاهراتها المطلبية السلمية، وايضاً بضغوط من المؤسسات الدينية والثقافية من خلال رؤية يقدمونها لمزيد من المشاريع التنموية والانتاجية وعدم الانغماس في الهمّ السياسي واسلوب الترضية وما يسمى بـ”التوافق” او المحاصصة السيئة الصيت التي تسببت وما تزال في كل هذه الكوارث والمصائب، والتي من شأنها ايضاً ان تدفع هذه الحكومة الى حتفها.
حتى لا تندفع الحكومة بنفسها الى حتفها
منذ توليه رئاسة الوزراء، وعادل عبد المهدي يقضي أيامه في منصبه بهدوء منذ الاشهر الاولى من هذا العام، ولم تكن ثمة حراكاً معارضاً من الجماهير على ما يعيشه من …