معظم الشعوب المأزومة سياسياً، ومنها؛ العراق، يعود أحد سبب –من جملة اسباب- أزماتها ومصائبها الى فجوة معرفية خطيرة بينها وبين قيادتها السياسية؛ فهي تفكر –في معظم الاحيان- بمصالحها الآنية الضيقة، ومن أجل ذلك تتقرب الى الأقوى والاقدر على تلبية حاجاتها من فرص عمل، وامتيازات، وقروض اسكان، وغيرها، ولكن! ما أن تتغير هذه الصفات لدى هذا القائد الذي ربما يكون مدير عام، او وزير، أو نائب في البرلمان، فان الرضى يستحيل سخطاً، والتأييد؛ معارضة وتنكيلا؛ وكلما كبرت هذه الفجوة واتسعت رقعة الاتباع غير الواعي، كلما اتسعت مساحة الازمات وتعقدت المشاكل، بينما اذا تقلّصت هذه الفجوة، وساد الوعي بين الجماهير كان من السهل ايجاد الحلول من نفس هذه القيادة التي سترى انها أمام شريحة واعية تفكر بالأفق البعيد ولاتكتفي بالمغريات والوعود المعسولة.
-
قوة المال تبشر بالفساد والديكتاتورية
بما ان أي مجتمع وأمة في العالم بحاجة الى قائد يدير شؤونها ويدلها طريق الصواب، فان العلماء والفلاسفة بحثوا الأمر منذ القدم فيمن يكون القائد؟ وما هي مواصفاته؟
فلاسفة اليونان قالوا: أن القيادة للحكماء؛ وهم الفلاسفة انفسهم، فهم الأقدر على تفسير الامور وإصدار الاحكام والتشريعات، ثم ظهرت الزعامات الداعية الى التأليه ليكون الزعيم بمنزلة الرب للناس، كما فعل نمرود وفرعون و اباطرة الرومان، فكانوا يقودون الناس بقوة السلاح والمال، وبعد ظهور المسيحية وتأثيراتها البالغة في نفوس الناس، انتقلت السلطة والقيادة الى رجال الكنيسة ممن يدّعون خلافة النبي عيسى، عليه السلام، وأنهم يمثلون السماء! ويجب أن يكون أمرهم مطاعاً من الناس ومن القصر ايضاً، مما يعني ظهور ما يسمى بـ “الثيوقراطية” او الحكم الديني البحت والقائم على الإكراه والتطرف، وبسبب أنهار الدم التي أريقت في “حروب الكثلكة” والحروب الطائفية الدامية، فكّر العلماء والحكماء في الغرب الاوربي لأن يضعوا حداً لهيمنة الكنيسة ورجالها، وتحجيم نفوذهم، ليكون مقتصراً على الكنيسة وحسب، ويعطوا الصلاحية الكاملة للعلم لا غير.
وبالرغم من المنجزات والكتسبات ذات التأثير على حياة البشر طيلة قرنين من الزمن، بيد أن البشر اكتشفوا مؤخراً أن هذا العلم الذي جلب لهم الرفاهية والحياة السعيدة، كان في نفس الوقت سبباً للحروب المدمرة، والطبقية المقيتة، والحرمان ومآسي لا تُعد، عندما أصبح العالم أداة طيعة بيد الحاكم، وفي بعض الاحيان بيد اصحاب الرساميل الضخمة واصحاب المصانع والمزارع.
وحسب تعبير العلماء فان العلم قوة كامنة في النفس الانسانية تتفجر فتصنع الابتكارات والمنجزات العظيمة من طائرات وجسور وتقنية اتصال عالمية باهرة، ومصانع ومصافي للنفط وغيرها، ولكن كل هذا بحاجة الى عين ثاقبة توجهه الى حيث الفائدة المرجوة للبشرية في الحاضر والمستقبل، وإلا تكون السلاح الفتاك الذي ما يزال يسفك دماء الملايين في العالم، او تكون تقنية الاتصال التي تهدد ثقافة وذهنية الملايين من الاطفال حول العالم، بما تنقل من أنماط للعيش وطرق تفكير تبين مؤخراً آثارها السلبية على الاطفال والكبار ايضاً.
بل لنفترض أن المنجز العلمي العظيم؛ طائرة ركاب تقل خمسمائة راكب على متنها وهي تسبح في الفضاء الفسيح، فهل يعقل أن تكون من دون ربّان او قائد يوجهها الى مقصد ما؟ ثم نلاحظ التشديد على مواصفات وأحوال هذا القائد (الكاتبن) أن يكون خالياً من الامراض النفسية، والبدنية ايضاً، وأن لا يكون مدمناً على الكحول والمخدرات، وغيرها من الصفات حتى لايعرض حياة الركاب الى الخطر.
هذه المواصفات القيادية في طائرة مدنية تقل عدداً صغيراً من الناس، تنسحب ايضاً على قيادة أمة بملايين من البشر، إنما في صفة تقوى النفس التي تضع الاحكام والقرارات ضمن معايير الحق والفضيلة والقيم السامية، فعندما تغيب هذه التقوى في بلد مثل العراق –مثلاً- وفيه كل عوامل النهوض والتقدم، من ثروات وعقول، وموقع جغرافي وغيرها، فانه يحول كل هذه القدرات الى عوامل موت وحرمان وأزمات معقدة، ولعل ما نعيشه اليوم خير دليل على ما نذهب اليه، بل وما يثير الدهشة حقاً؛ أنك اذا تحدثت عن الأمانة، والصدق، والتعاون، والتسامح في دائرة حكومية، او مستشفى، او جامعة، او محكمة، أو أي مؤسسة حكومية اخرى، يأتيك الجواب سريعاً؛ بأن هذه الامور من الجيد الحديث عنها في المسجد وليس هنا!! لأن هنا ميدان المال المحرك لأكبر معاملة حتى وإن كان يشوبها الفساد والتلاعب بحقوق الناس.
-
هل ضيعنا الأسوة الحسنة حتى نذهب الى الغرب؟!
هنالك مقولة يشوبها الكثير من الشك والريبة تعود لأحد المفكرين: “وجدت الاسلام في الغرب ولم أجد المسلمين، ووجدت المسلمين في الشرق ولم أجد الاسلام”.
فالكثير يتغنّى بما لدى الغرب من تعاليم وأحكام وقوانين تعكس الجانب الانساني والاخلاقي، مما استدعى اندفاع الآلاف من الشباب للوصول الى البلاد الغربية، لاسيما في اوربا واميركا وكندا، على أن في هذه البلاد العيش الكريم والحياة البعيدة عن الازمات والمشاكل، بل والبعيدة عن الدجل في الدين والسياسة، في حين لو نقرأ تاريخ هذه البلاد القريب وليس البعيد، نجد أن ما عليها اليوم يمثل نقلة نوعية من ماضٍ رهيب مليئ بالحروب والتصفيات الدموية والاستغلال البشع للانسان، فقد عانت اوربا وروسيا من طغيان الملوك والطبقة الارستقراطية (الإقطاع)، ثم واجهت لأول مرة النزعة القومية في المانيا لتتحول الى مارد يسحق تحت أرجله الملايين من البشر في حرب دامت ست سنوات فقط وأزهقت أرواح حوالي سبعين مليون انسان!
وحتى لا تتكرر هذه التجارب نلاحظ الحرص لدى قادة الغرب بنشر قيم التسامح والتعايش وأعطاء مساحة لا بأس بها من حرية التعبير والعقيدة واحترام حقوق الطفل والأسرة والمعدمين والعاطلين عن العمل، بل ويشجعون على المبادرات الخيرية لدعم المصابين بالامراض الخطيرة، او ضحايا الكوارث الطبيعية وغيرها، مع ذلك، فان هذه المسحة الانسانية لن تشفع بأي حال من الاحوال في إعطاء صورة متكاملة للفضيلة والاخلاق في المجتمع الغربي، حيث تؤكد الشواهد أن الاخلاق يطبقها القانون فقط، وليس الوجدان والضمير، فالموظف انما يتعامل باخلاق مع المواطنين خلال الدوام الرسمي فقط، وفق القوانين الصارمة، وايضاً احترام إشارة المرور، او الوقوف في طابو على متجر وهكذا… فان الغرامة هي التي تدفع –على الاغلب- الناس للالتزام بالقانون الذي ينفع الجميع.
وهذا أمير المؤمينن، عليه السلام، يسمع واليه على البصرة؛ عثمان بن حنيف، يدعى لمأدبة كبيرة لأحد الوجهاء، فينقل له أنه حضرها بكل فخر وسرور، فيكتب له عتاباً شديداً في رسالة بليغة، ومليئة بالحكم والتعاليم الوضاءة التي هدرت من أمير المؤمنين بشكل عفوي أسفاً لما حصل من هذا الوالي (المحافظ) في وقت يتضور الناس جوعاً. يقول، عليه السلام، في بداية الرسالة المدوية: “…وما ظننت أنك تجيب الى طعام قوم عائلهم مجفو –أي فقيرهم مطرود- وغنيهم مدعو، فانظر الى ما تقضمه من هذا القضم، فما اشتبه عليك علمه فاللفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه”.
في هذه الرسالة المطولة يبين الامام، عليه السلام، معيار التقوى حتى تناول الطعام على موائد الوجهاء في الدعوات الخاصة، وما أكثرها اليوم، ومعظمها مشوباً بالمصالح والنوايا غير الحسنة، ولا يظن أحد أن القضية تتعلق بوزير أو مدير او مسؤول في الدولة، إنما القضية تشمل أي انسان في المجتمع، لان قوة المال شعار يتغنّى به معظم افراد المجتمع في أي بلد اسلامي، وما عتاب أمير المؤمنين، عليه السلام، على واليه في البصرة إلا لاستجابته وهرولته لمأدبة أدقامها من وصفه الإمام بـ “رجلاً من فتية البصرة”، بمعنى أحد الوجهاء والاغنياء، وبالطبع لو كان عثمان بن حنيف انساناً عادياً من عامة المسلمين لما وصلته دعوة هذا الوجيه البصري آنذاك، كما نشهد الحال نفسه في الوقت الحاضر.
إن المجتمع الذي يضع ثقته في صاحب المال والسلطان، ويعده الأقدر على تلبية حاجاته وصنع الحياة السعيدة له، حريٌ بأن يتلقى أقسى المآلات في خدماته وأمنه وكرامته، والتجارب الماضية للشعوب مع حكامها خير دليل على ما نذهب اليه، بينما الالتفاف حول الأخيار يقودهم الى حياة الرضى والكفاف التي لا يرون فيها أي نكد مهما كانت الظروف والتحديات، وما تجربة الشعب العراقي مع صدام حسين ببعيدة عنّا، ففي الايام الاولى لتولّي هذه الطاغية المحتال زعامة البلد، ظن الغالبية العظمى من الناس أنه الرجل المثالي الذي سيتذكره تاريخ العراق في انجاز التقدم والرفاهية للعراق والعراقيين ولكن! حصل ما حصل من كوارث ومصائب لم يشهدها هذا البلد طوال تاريخه القديم والحديث.
في المقابل لنلاحظ تجربة قريبة منّا في ايران، عندما بايع الشعب الايراني الامام الخميني –رحمه الله- قائداً للبلد، فقد قضى مرحلة استثنائية من حياته ملؤها التكافل الاجتماعي، والالتزام بالقيم الانسانية والاخلاقية، في وقت كانت ايران تعيش وضعاً اقتصادياً وسياسياً لم يجربه بلد في العالم، حيث كان الشرق والغرب متفق عليه مقاطعته ومحاصرته وعدم السماح له بالنهوض والتقدم، بالمقابل تقديم كل الدعم –من الشرق والغرب- الى خصمه وعدوه اللدود، نظام حزب البعث.