الهدى – متابعات ..
بصوتٍ متقطعٍ ودموعٍ لا تفارق عينيها، روت زينب، تفاصيل فقدان ابنها “عباس”، البالغ من العمر 14 عاما، نتيجة ما وصفته بـ”الإدمان القاتل” على الألعاب الإلكترونيَّة.
تقول الأم إن ابنها كان مهووسا بالألعاب الرقميَّة، إلى حد قضائه ساعاتٍ طويلة يوميًا أمام شاشة الحاسوب، بعيداعن أسرته وأصدقائه.
وتوضح زينب في حديث لها، أنَّ ابنها كان يجد في الألعاب مهربًا من ضغوط الحياة والمراهقة، لكنها لم تكن تدرك أنَّ هذا الشغف سيتحول إلى تهديدٍ حقيقي لحياته، “كان يقول لي دائمًا: فقط دعيني أنهي هذه المرحلة من اللعبة، ثم أخرج معكم… لكنه لم يخرج أبدًا”، تضيف زينب.
ووفقًا لرواية الأم، فقد دخل عباس في حالة من التوتر والقلق أثناء لعبه لإحدى الألعاب الصعبة التي تطلبت منه تركيزًا عاليًا واستغراقًا طويلًا، ما أثر سلبًا في حالته النفسيَّة، وانعكس بشكلٍ خطيرٍ على صحته الجسديَّةن ولم تمضِ فترة طويلة حتى أصيب بسكتة قلبيَّة مفاجئة، أنهت حياته بشكلٍ مأساوي.
وتؤكد زينب أنَّ ما حدث لابنها يجب أنْ يكون ناقوسَ خطرٍ لكل الأسر، مشيرة إلى ضرورة رقابة الأهل ووعيهم بتأثير الألعاب الإلكترونيَّة في الصحة النفسيَّة والجسديَّة لأبنائهم.
ولم يكن يدرك علي كاظم، الشاب العراقي، أنَّ لعبة بسيطة مثل “8Ball Pool ” التي انتشرت عام 2014 ستكون بوابة دخوله إلى عالم إدمان الألعاب الإلكترونيَّة، بدافع الفضول، حمّل اللعبة على هاتفه بعدما لاحظ إقبال كثيرين عليها، ليبدأ معها رحلة من الجلوس لساعاتٍ طويلة أمام الشاشة، مدفوعًا بالتحدي والرغبة في الفوز.
ويقول علي في حديث له: “بدأت بلعب ألعابٍ بسيطة على البلايستيشن منذ الطفولة، لكنَّ الإدمان الحقيقي بدأ عندما دخلت عالم الألعاب التنافسيَّة على الإنترنت، فكرة التقدم في التصنيف والتفاعل مع لاعبين من مختلف البلدان كانت تمنحني شعورًا بالإنجاز والانتماء”.
ومع مرور الوقت، بدأت آثار الإدمان تظهر بوضوحٍ على حياته؛ فالمستوى الدراسي تراجع، والعلاقات الاجتماعيَّة بدأت تنهار، ويضيف “كنت أسهر لساعاتٍ طويلة، أُهمل دراستي، وأتحاشى المناسبات الأسريَّة، فقط لأنَّني كنت أفضل العيش في عالم الألعاب”، يضيف علي.
وفي العام 2020، ومع إطلاق لعبة “ببجي موبايل”، تفاقمت الحالة، اللعبة، التي وفّرت تواصلًا مباشرًا بين اللاعبين، زادت من تعلقه، لكنها – بحسب قوله – “كانت سلاحًا ذا حدين”، فإلى جانب المتعة، خلقت توتراتٍ وصراعاتٍ لفظيَّة بين اللاعبين، وأثرت في نفسيَّة الكثيرين، بل وولّدت أجواءً عدائيَّة في بعض الأحيان.
وتجربة علي، التي لا تزال مستمرة بجهودٍ ذاتيَّة للتوازن بين الواقع والعالم الرقمي، تضاف إلى العديد من الأصوات التي تحذّر من تبعات الإدمان الإلكتروني، خصوصًا بين فئة الشباب والمراهقين، إذ تشير دراساتٌ إلى أنَّ الألعاب التنافسيَّة تُعدُّ من أبرز مسبّبات التوتر والعزلة والسلوكيات غير الاجتماعيَّة في السنوات الأخيرة.
ويرى الكاتب، رياض الفرطوسي، أنَّ الألعاب الإلكترونيَّة ليست كلها ضارة، بل يمكن أنْ تكون وسيلة لتنمية عددٍ من المهارات لدى الشباب والمراهقين، كتحسين سرعة رد الفعل، وتعزيز اتخاذ القرار، وتطوير التركيز الذهني. كما تحتوي بعض الألعاب على عناصر تعليميَّة تسهمُ في تعلم لغاتٍ جديدة أو توسيع المعرفة العامة.
ويضيف الفرطوسي: أنَّ “الألعاب الجماعيَّة يمكن أنْ تعزز التواصل الاجتماعي، إذ يتعاون اللاعبون لتحقيق أهدافٍ مشتركة، لكنَّها في الوقت ذاته قد تؤدي إلى العزلة إذا تمَّ استخدامها بشكل مفرط على حساب العلاقات الواقعيَّة.”
ويحذر الفرطوسي من أنَّ الإدمان على الألعاب قد يُفضي إلى مشكلاتٍ مثل القلق، الاكتئاب، التنمر الرقمي، وضعف التركيز والتحصيل الدراسي، مؤكدًا أنَّ الحلَّ يكمنُ في إدارة الوقت والرقابة الذاتيَّة أو الأسريَّة لتفادي هذه الأضرار.
وفي هذا السياق، يؤكد الأكاديمي الدكتور محمد الفالح، أن الألعاب الإلكترونيَّة لم تعد مجرد وسائل ترفيه، بل أصبحت أدوات مبرمجة بدقة، تتماشى مع المزاج الإنساني وتدفع المستخدم إلى التعلق بها بشكلٍ لا واعٍ.
وقال الفالحان “العولمة ألقت بظلالها على كل جوانب الحياة، وصنّاع الألعاب استطاعوا توظيف خوارزميات تنسجم مع الحالة النفسيَّة والعاطفيَّة للإنسان، الأمر الذي جعل التعلق بها يتحول إلى نوعٍ من الإدمان. الألعاب اليوم ليست مجرد ترفيه، بل تُستخدم لنقل خبرات وتوجهات، وتشكل واقعًا افتراضيًا يجد فيه الفرد ما يتلاءم مع شخصيته ومزاجه.”
ويشير الفالح إلى تأثيرات بيولوجيَّة أيضًاً، قائلاً: إنَّ “الغدة الصنوبريَّة في جسم الإنسان ترسل إشارات تؤثر في طريقة تفاعلنا مع الأجهزة اللوحيَّة، وهو ما يفسّر كيف تظهر الإعلانات المرتبطة بما نفكر فيه على أجهزتنا الذكيَّة.”
كما حذّر من أنَّ الإفراط في استخدام هذه الألعاب يؤدي إلى آثارٍ جسديَّة ونفسيَّة، خصوصًا لدى الأطفال، قائلاً: “للأسف، الكثير من الألعاب لا تنمّي الذكاء بل تعزّز العنف والسلوك العدائي، وتؤدي إلى العزلة وتغيّر المزاج بشكل واضح.”
من جانبه، يرى الباحث في الشأن الاجتماعي العراقي، ولي جليل الخفاجي، أنَّ عودة الأطفال إلى الألعاب التقليديَّة التي عرفتها الأجيال السابقة لم تعد ممكنة في ظل التحولات الاجتماعيَّة المتسارعة وتأثير العولمة والتكنولوجيا الحديثة.
وقال الخفاجي: “لا يمكننا اليوم أنْ نطلبَ من الأطفال أنْ يلعبوا بالحبل أو يمارسوا الركض كما كنا نفعل سابقًا. الألعاب الإلكترونيَّة أصبحت أكثر إثارة وسهولة، وهي تجذب الأطفال من مختلف الفئات، بما في ذلك من يعانون من صعوبات حركيَّة، لأنها تتيح لهم الترفيه من دون مجهودٍ بدني”.
وأشار إلى أنَّ هذه الألعاب باتت تشكّل بديلًا للعلاقات الاجتماعيَّة التقليديَّة، لكنَّ المشكلة تبدأ عندما يصل الاستخدام إلى مرحلة الإدمان، وهو ما يؤدي إلى تداعياتٍ صحيَّة ونفسيَّة خطيرة”. إدمان قد يسبب آلامًا في الظهر والرقبة، ضعفًا في البصر، نوبات دوار وقلق، بل وقد يتطور إلى اضطراباتٍ مثل التوحد، عندما يصبح الطفل مهووسًا بالجهاز وشخصيات اللعبة.”
ويضيف الخفاجي أنَّ تكرار التعرض لمحتوى العنف والرعب داخل هذه الألعاب، يعزز السلوكيات السلبيَّة لدى الأطفال ويخلق فجوة بين المبادئ التي تربّوا عليها في المنزل، والعادات الجديدة التي يكتسبونها من خلال هذا العالم الافتراضي، خاصة في ظل غياب المتابعة من الأهل، وانشغال كثيرٍ من الأمهات عن المشاركة التربويَّة اليوميَّة.
ويختم الخفاجي بالتأكيد على ضـــــرورة رفع الوعــــي المجتمعي بشأن الاستخدام السليم للتكنولوجيا لدى الأطفال، وتحويلها من خطرٍ صامتٍ إلى أداة إيجابيَّة في البناء النفسي والاجتماعي.