“وجدتُ عِلمَ الناسِ كُلَّهُ في أربَع، أولها أن تَعرِف ربّك، والثاني أن تَعرف ما صَنَع بك، والثالث أن تَعرِف ما أرادَ مِنك، والرابع أن تَعرِف ما يُخرِجُك من دِينك”.
الامام الصادق، عليه السلام.
يبدو أننا هذه الأيام نتلقّى النتائج الخطيرة للابتعاد عن معرفة الدين والأخلاق واستبداله بمعارفَ عن الطبيعة والحيوان وسلوك الانسان، وما يفرزه من حالات مرضية او نفسية، ومبرر البعض لهذا المسلك الفكري، صعوبة التعامل مع التأويلات المتضاربة “للنصوص الدينية” مثل؛ القرآن الكريم وروايات أهل بيت رسول الله للتوصل الى صورة متكاملة عن أحكام ديننا، فأصبحت علوم الطب، والفيزياء، والأحياء، والقانون، والسياسة، واشباهها من العلوم الطبيعية والإنسانية، هي كل ما يحتاجه الانسان في حياته.
وبمرور الزمن تكرّست صورة ذهنية عن الثقافة الدينية أنها تمثل الأحكام فقط، وأن الحوزة العلمية –مثلاً- او عالم الدِين، مثله مثل المحكمة، يدخلها من لديه مشكلة قانونية او جنائية، وإلا فهو يعيش حالته الطبيعية في بيته وفي محيط عمله وفي الشارع والسوق، مما أسفر عن انفصام بين العلم والدين، مع نوع من المقبولية لدى بعض “الأكاديميين”، بأن العلم لا علاقة له بالدِين، فلكل قواعده وقوانينه.
وطالما حذر علماء الدِين من عواقبَ هذا الانفصام على أهل العلم، لاسيما في المؤسسات التعليمية كافة، من أول صف في المرحلة الابتدائية، وحتى آخر يوم من الدراسة الجامعية، بأن العلم والدين جناحان متلازمان للتحليق في آفاق النهضة والتطور والتنمية لأي شعب بالعالم، لأن الدِين هو الوحيد الذي يضمن وجود الأخلاق والآداب الحسنة، وينظم أفضل العلاقات بين بني البشر، وكانت الأمثلة بارزة، بل وقديمة أوردها سماحة المرجع المدرسي في مؤلفاته، عن كيفية تجنيد هتلر للعقول التكنولوجية لأبناء شعبه في مجال التصنيع العسكري لتغذية جبهات القتال بالحرب العالمية الثانية التي أزهقت أرواح حوالي سبعين مليون انسان، والمثال الأخير في النظام الصدامي البائد في العراق.
ومن تجنيد العالم علمه ودماغه الإبداعي لخدمة السلطة والديكتاتور، الى تجنيد العالم علمه وعنوانه الأكاديمي لخدمة أهوائه وشهواته الى ما هو أحطّ وأحقر من المال والوجاهة الاجتماعية، عندما يجد هذا الأكاديمي نفسه على حين غرّة ضحية نزوة جنسية عابرة مدتها دقائق وربما ثواني، ليدمر سنوات طوال من الدراسة والتعب وتضحيات الأهل، ويذهب كل شيء أدراج الرياح.
نحن نعد الطبيب، الشخصية المهنية الأكثر احتراماً في المجتمع، وربما في سالف الزمان كانت العلاقة شفافة ومتوازنة بين الطبيب وافراد المجتمع، بأن الأول يحبّ تقديم أفضل الخدمات للناس، بأن يساهم في علاجهم من امراض بدنية مختلفة، وينقذهم من أمراض ربما تؤدي بهم الى الموت، والناس بالمقابل يكنون له الاحترام والتقدير لأمانته وطيبة نفسه، بينما اليوم، فإن كثرة الامراض، وازدياد الحاجة الى الطبيب، خلقت شعوراً بالتعالي، مع الاغترار بالمردود المالي الوفير، غيّب الجانب الأخلاقي والإنساني عن هذه العلاقة، فالناس، و رغم حاجتهم الى الطبيب بيد أن نظرة الريبة والشك وعدم الثقة ترافقهم –في معظم الأوقات- وهم في العيادات التخصصية، او في المستشفى، بعد أن علت أصوات الاحتجاج على الغلاء الفاحش لثمن استعادة الانسان صحته من مرض بسيط، فضلاً عن الامراض المستعصية والعمليات الجراحية.
لا ننسى أن نقاء القلب والنفس بفضل الورع والتقوى وآداب المعاشرة الحسنة، لا يأتي مع الهواء الطلق، بقدر ما يكون متصلاً بالضرورة بالمنبر وعالم الدِين والكتاب والمحاضرة، وسائر مصادر الثقافة الدينية
نفس المشكلة نواجهها في المؤسسات التعليمية، مع الفارق في الصمت على كثير من العلاقات المريبة بين الأستاذ والطالب او الطالبة تحديداً، فالأول يجد نفسه في مرتبة تخوله استغلال حاجة الطرف المقابل اليه، فهو العالم أمام متعلم يريد بضع درجات للنجاح، عند هذا المفترق يكون الأستاذ أمام الاختبار المصيري، بين أن يجعل علمه ومكانته كحامل درجة دكتوراه –مثلاً- مطيّة للحصول على لذة المال من الطالب، ولذة الجنس من الطالبة مقابل درجات للنجاح، وأن يحكّم ضميره وأخلاقه، ويستحضر خلفيته التربوية والاجتماعية ويغلبها على كل شيء.
ولا ننسى أن نقاء القلب والنفس بفضل الورع والتقوى وآداب المعاشرة الحسنة، لا يأتي مع الهواء الطلق، بقدر ما يكون متصلاً بالضرورة بالمنبر وعالم الدِين والكتاب والمحاضرة، وسائر مصادر الثقافة الدينية، فمن يكون فقيراً من هذه الناحية فمن الطبيعي أن لا يكون أمام مفترق طريقين، بل طريق واحد ومنزلق لا محالة نحو الفضيحة والسقوط الأخلاقي المريع.
إن كل فرد في المجتمع معرض للغواية، لاسيما في الوقت الحاضر مع وجود الكم الهائل من المثيرات الجنسية، حتى وإن لم يكن أستاذ جامعة، او سائق تكسي، او عامل في مجمع تجاري، بل كان مستطرقاً في الشارع، او واقفاً عند شباك بيته في الطابق العلوي يتأمل زرقة السماء –مثلاً-، بل وحتى إن كان خارجاً من باب بيته في الحيّ السكني، فإن ما نحتاجه جميعاً؛ الدخول في مشروع التنمية الروحية لبلورة خصال وصفات زرعها الله –تعالى- في نفس كل انسان، وهي التقوى، وقد بين هذه الحقيقة؛ القرآن الكريم في سورة الشمس: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}، بمعنى أن المسالة اختيارية تحتاج الى تفعيل الإرادة فقط مع عزم النية على تجنب المحرمات، وكل ما يلحق الضرر المادي والمعنوي بنا.