ثقافة رسالية

نهج البلاغة والحياة (69) المال أم العفاف؟

قال أمير المؤمنين عليه السلام: العفاف زينة الفقر”. (نهج البلاغة، الحكمة: 68).

ما هو العفاف وكيف يكون زينة وما هو ارتباطه بالفقر؟

حاجات الانسان ــ كجسمه ــ في هذه الحياة محدودة تماما كما ان للجسم حدودا معينة في الطول والعرض والثقل وما اشبه، كذلك للحاجات حدود، فلا يحتاج الانسان الى ملايين الأمتار من القماش، وإنما يكفيه متران ونصف أقل او أكثر من ذلك بقليل، ولا يحتاج الى أطنان من الطعام، وانما يكفيه ما يسد رمقه، وكذلك لا يحتاج الى مكان عريض وطويل لكي ينام يكفيه متر ونصف او مترين مثلا.

لكنّ نفس الانسان الأمارة بالسوء المليئة بالجشع والطمع والحرص لا تكتفي بما يحتاجه الانسان، بل تبحث عن المزيد، {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ}، والنفس لا تمتلئ، ولا يملأ عين ابن آدم الا التراب، فما تراه عينه يريد اقتناؤه واحتكاره ولربما لا يستفيد منه خلال عام وربما في عمره كله.  

الانسان تكفيه غرفة واحدة لكنه يريد عشرات الغرف والبيوت، ولذلك تجد أولئك الذين أيديهم مفتوحة والمجال أمامهم غير مغلق لم يكتفوا بشيء واحد، بل سعوا الى عشرات البيوت، والبساتين، على الرغم انهم لم يسكنوا في بعضها!

في هذه الرواية التي صدرنا المقال بها، يتحدث أمير المؤمنين، عليه السلام، عن حالة نفسية لدى الفقير، فالفقر عار، ويكشف سوآت الانسان، وإذا اقبلت الدنيا على قوم أعارتهم محاسن غيرهم، وإذا ادبرت عنهم سلبتهم محاسن أنفسهم.

بعض الفقراء ـ عادة ـ يبيعون شخصياتهم بل والبعض يبيع شرفه وعرضه، وإذا نظرنا الى تقارير الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها، تتحدث عن الجريمة، والفساد، وبيع البنات، فملايين الأطفال يتم بيعهم في الولايات المتحدة الامريكية.

والفقر ليس في جانب محدد؛ فهناك فقر في السلاح، والقوة العسكرية، وفقر في التقدم الصناعي، وعلم الإدارة وما اشبه، والفقير هنا يبيع نفسه لسيده الأقوى، لذلك ترى ان رئيس دولة أو اميرها يركع لرئيس آخر أقوى منه، وهذا فقير لا يمتلك العفة، ومن ثم انكشفت سوآته.

العفاف يستر العار

الذي يزيّن الفقر هو العفاف؛ أي عفيف النفس، فإذا كان الشخص فقيرا فهو مستعد ان يموت من الجوع ولا يبيع حريته، لان الحرية لا تعوّض، والجوع قد يتبدل الى شبع.

الفقر مكروه شرعا وعقلا والله ـ تعالى ـ لا يريده للناس، ولكن الباري يمتحن عباده بالفقر كما يمتحنهم بالغنى، فحينما يكون الانسان فقيرا وعفيفَ النفس، يكون ففقره بالنسبة اليه شرف وكرامة.

في مقابل العفاف هنالك الحرص، ولابد أن نعرف هذه الخصلة، ذلك أن الانسان حين لا يملك شيئا يحرص، فأغلب الفقراء حريصون، وعنده صورة خيالية عمن يملك، فيظن ان الذي يمتلك سيارة فهو في سعادة أبدية.

الذي يزيّن الفقر هو العفاف؛ أي عفة النفس، فإذا كان الشخص فقيرا فهو مستعد ان يموت من الجوع ولا يبيع حريته، لان الحرية لا تعوّض، فالجوع قد يتبدل الى شبع

 فالفقير الذي لا يملك قصرا يظن انه لو امتلكه فسيعيش قمة َالهناء وهكذا في بقية الأمور، وتكون النتيجة أنه يضيف الى فقره الحرصَ فتنكشف كل سوآته في المجتمع، قد يكون الانسان فقيرا لكنه عزيزا في مجتمعه “امنن على من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره واستغن عمن شئت تكن نظيره” الحرص إذا رافق الفقر يجعل منه عارا، وإلا فنفس الفقر ليس عارا وقد يكون من الله ابتلاءً.

وإذا نظرنا الى الفقر من زاوية اجتماعية له آثار أخرى، فالفقير لا قيمةَ لكلامه في المجتمع، فصاحب المال مقدم على الفقير في العرف الاجتماعي، وهذه حالة بعيدة عن القيم والأخلاق.

 لكن إذا قنع الفقير وعفَّ نفسه، فسوف يكون في نظر المجتمع أقوى من الغني، {يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ}، فالغني هو الذي لا يحتاج الى الاخر فيتم احترامه، والفقير إذا لم يحتج الى الآخر فسيفرض احترامه، “العفاف زينة الفقر” أي انه يستر كل السلبيات التي ترافق الفقر، وكأن الإمام يريد ان يقول: ما دمت خسرت مالا وملكا لا تخسر شخصيتك وذلك بأن يكون الانسان عفيف النفس.

وكما ان العفة قد تكون شخصية (حالة فردية)، قد تتجسد في أمة عفيفة، وجماعة عفيفة، ففي الإسلام يحرم على الهاشميين ان يأخذوا الصدقة الواجبة، فالدِين أراد لهم ان يعيشوا أعفاء، تكون عائلة عفيفة من خلالها يربي الإسلام أمة عفيفة، لذلك الامة حينما تكون عفيفة ليست مستعدة ان تبيع حريتها بسهولة.

وهناك مجموعة من الروايات التي تتكلم عن العفة نورد بعضا منها، قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء طلبا لما عندَ الله وأحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء اتكالا على الله”، وعن نجم، عن أبي جعفر ـ الباقر ـ عليه السلام قال: قال لي: يا نجم كلكم في الجنة معنا إلا أنه ما أقبح بالرجل منكم أن يدخل الجنة قد هتك ستره وبدت عورته، قال: قلت له: جعلت فداك وإن ذلك لكائن؟ قال: نعم إن لم يحفظ فرجه وبطنه”.

وقال أمير المؤمنين: “العفاف يصون النفس وينزهها عن الدنايا” وقال: “إن الله يحب المتعفف الحيي الراضي”.

الفقر ليس عيبا في نظر الدِين الإسلامي، بل هناك دعوة صريحة أن يكون الانسان المؤمن مقتدرا في الجانب المادي، لكن الابتلاءات الربانية قد تختبر المؤمن بالفقر، وهنا لابد أن يتحلى الفقر بالعفاف لأنه يستر معايب الفقر.

__________

(مقتبس من محاضرة لآية الله السيد هادي المدرّسي حفظه الله).

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا