لا يكاد تمرّ الذكرى السنوية لهدم مراقد أئمة البقيع إلا ويُثار التساؤل: ما الذي دفعهم إلى هذا الهدم؟
الجواب على ذلك أن الشيعة تستمد قوتها من هذه المراقد المقدسة، وتضحّي في سبيل الحفاظ عليها، ومن الأمثلة على ذلك، ما حصل في زمن الطاغية صدام ـ لعنه الله ـ إذ كان هدفه الأول هو تدمير المراقد، لأنه رأى أن الموالين لأهل البيت، عليهم السلام، يبذلون الغالي والنفيس لزيارتها، متحدين الصعوبات والتهديدات، منها ما جاء في تاريخ الدولة العباسية أنها قررت قطع يد أو رجل كل من يزور الامام الحسين، وأبدى البعض موافقته فقُطعت أيديهم وبقوا ثابتين، يتلهفون لزيارة الإمام الحسين وأهل البيت، عليهم السلام.
وعندما دخل التنظيم الإرهابي العراق، كان هدفه كذلك تدمير المراقد، ولكن بفتوى واحدة صدرت من جانب المرقد العلوي الطاهر، تلاشت تلك الجماعات الإرهابية كالغبار المتناثر، وسقطت قوتهم الوهمية، وهناك مواقف كثيرة تُثبت عُمق التضحيات التي يبذلها الموالون في سبيل الدفاع عن هذه المشاهد الطاهرة.
ومن أجل إضعاف الشيعة، أقدموا على هدم مراقد أئمة البقيع، لكنهم لم يزيدوا الشيعة إلا عزيمة وقوة، وقد أكد هذه المسألة الشيخ الشهيد نمر باقر النمر رحمه الله، الذي وقف بوجه طغيان آل سعود، ودافع عن الدين الإسلامي وعن مراقد أئمة البقيع عليهم السلام.
وفي إحدى خطبه قال: “إن هدم قبور أئمة البقيع لا يضر أهل البيت، بل يضر من حاول أن يمحو آثارهم، ومن يظن أن هدم قبورهم سيعني إخفاء ذكرهم، فقد أخطأ، فذكر أهل البيت، عليهم السلام، لا يُحجب بالتراب، بل هو حي في قلوب المؤمنين وألسنتهم”.
وأضاف في حديث آخر: “إن البقيع ليس مجرد مقبرة، بل هو معلم من معالم الإسلام، وهو شهادة على معاناة أهل البيت، عليهم السلام، على جهادهم في سبيل الله، وعلى تضحية الإمام علي عليه السلام، وأبنائه في الدفاع عن الحق والعدل”.
وتابع بعدها قائلاً: “إن تدمير قبورهم هو عمل ظالم، هدفه محو الذاكرة الجماعية لهذه الأمة، ومحاولة لتقليص الاعتراف بالحق الذي تمثله عائلة النبي وآله، هذه العائلة الطاهرة التي بذلت الغالي والنفيس في سبيل الإسلام”. فهذا الشيخ الكبير كان رمزا من رموز الدفاع عن أئمة البقيع، عليهم السلام.
وكذلك قال سماحة المرجع الديني الشهيد السيد محمد باقر الصدر -قدّس سره-: “إن هدم قبور أئمة البقيع ليس مجرد إغلاق لآثار تاريخية أو محو لمعالم من معالم الإسلام، بل هو محاولة فاشلة لتشويه الحقيقة، ولطمس الهوية الإسلامية. إن هذه المراقد المقدسة ليست مجرد قبور، بل هي رمز من رموز الحق والعدل، وهي شهادات في وجه الظلم، ورمز للصبر والمقاومة.
لقد ضحى أئمة البقيع، عليهم السلام، بأنفسهم في سبيل الإسلام، وعاشوا حياة مليئة بالآلام والمحن، وكانت حياتهم نبراسا للمسلمين في كل مكان وزمان.
إن هدم قبورهم هو محو لذكرى هذه التضحية، ولكن هل يمكن للتراب أن يطمس نور الحقيقة؟ وهل يمكن للأيدي القاتلة أن تمحو ما خلده التاريخ في قلوب المؤمنين؟
لقد ضحى أئمة البقيع، عليهم السلام، بأنفسهم في سبيل الإسلام، وعاشوا حياة مليئة بالآلام والمحن، وكانت حياتهم نبراسا للمسلمين في كل مكان وزمان
إننا نرى أن الهدم لا يعني إخفاء ذكر أهل البيت عليهم السلام، بل إنه يضاعف من قوة ذكرهم في قلوبنا وفي ألسنتنا، فذكرهم حي في قلوب المؤمنين الذين يحيون ذكرى هؤلاء الأئمة الطاهرين في كل لحظة، ويتذكرون جهادهم وصبرهم في مواجهة الظلم.
إن تدمير قبورهم هو تدمير لمعالم الحق، ولكن هذا لن يغيّر من حقيقة أنهم أئمة الهدى ومصابيح الدجى، وأنهم عاشوا ليكونوا قدوة لنا في كل زمان ومكان، فذكر أهل البيت لا يختفي بل يظل حيّا في قلوب من يحبهم ويؤمن بهم، وسوف يبقى هذا الحق قائما حتى يظهر صاحب الحق الذي يعيد الحقوق لأصحابها.
إننا نؤمن أن كل من يهدم قبور أئمة البقيع أو يسعى لمحو آثارهم، إنما يتحدى إرادة الله وتاريخ هذه الأمة، ويخالف الحق الذي أراده الله لأهل البيت، عليهم السلام، ولكن رغم هذه المحاولات الظالمة، فإن ذكرهم سيظل خالداً، وسيظل المؤمنون يدافعون عن هذه المراقد المقدسة بكل ما لديهم من إيمان وتضحية، حتى يأتي يوم الحق الذي يعيد لكل شيء مكانه ويؤكد للعالمين أن الحق لا يُهدم”.
ومنهم من يقول: إن بناء القبور وتقديسها كُفر، ولكن القرآن الكريم يرد على ذلك بوضوح. قال الله تعالى: {كَذَٰلِكَ بَيَّنَّا لَهُمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْۚ قَالُوا ٱبْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًاۖ رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْۚ قَالَ ٱلَّذِينَ غَلَبُوا عَلَىٰٓ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا}. (سورة الكهف، الآية: 21).
فكيف يُتخذ مرقد لأصحاب الكهف، ولا يُتخذ مرقد لأهل بيت النبي، صلى الله عليه وآله؟! ويُعد ذلك شركًا؟!
إن أهل البيت، عليهم السلام، هم من دافع عن دين الله، وضحّوا بأرواحهم في سبيله، ونشروه بصدق وثبات، أما أصحاب الكهف فقد فرّوا خوفًا من القتل، فأيّ الفريقين أولى بأن يُشيّد له مقام ويُعظّم قبره؟
بناء مراقد أئمة البقيع، عليهم السلام، حق، وسيبقى حقًا حتى ظهور صاحب الحق، الإمام المهدي المنتظر، عجل الله فرجه الشريف.