تخيل لو كنت مسافرا في سيارتك وبرفقة عائلتك، وغربت الشمس وحان وقت العشاء، وفي الطريق شاهدت (كُشك) لبيع (الفلافل) فنويت أن تقف عنده إلا أن اهلك أرادوا أن تأخذهم إلى مطعم فاخر.
وبعد مسافة قصيرة شاهدت بناية عالية دلتك عليها انارتها الساطعة والكثيرة، وفي أعلى البناية كتابة مضاءة بلون احمر: “مطعم”.
توجهتَ نحو المطعم بسيارتك، واوقفت سيارتك في موقف السيارات الخاص بالمطعم، دخلت مع أهلك إلى المطعم، واستقبلك موظف الترحيب بكل ود واحترام. وما أن دخلت الى (صالة المطعم) أتاك موظف آخر ليأخذك إلى المائدة المناسبة، والغريب أن المطعم كان خاليا من الزبائن، إلا أنك لم تفكر في الموضوع لأنك على سفر وتريد الوصول بأسرع وقت.
جلست مع عائلتك على المائدة، وأتاك موظف ثالث وقدم لك قائمة الطلبات (menu) وبعد أن اخترت ما تريد، أخرج الموظف (ipad) خاص به ليرسل طبلك إلى الموظفين البقية،
وهكذا بقيت تنتظر الطعام.
واخيرا اتاك موظف رابع وظننت للوهلة الأولى أنه أتى بالطعام إلا أنه اعتذر منك وقال: “لا يوجد ما طلبته”
فأجبته: “لا إشكال سأطلب طعاما آخر”
رد عليك الموظف: “لا يوجد أي طعام لدينا!!”
فأجبته: لماذا؟!
فقال: إن الوقود قد نفد منذ ايام ونحن لم نطبخ شيء على الإطلاق.
عندها إصابتك الدهشة، وجالت في بالك أسئلة تريد جوابا؛ لماذا أنتم هنا اذن؟
ولماذا كل هؤلاء الموظفين؟
ولماذا هذا الاسراف في الطاقة الكهربائية والأموال والوقت؟
إلا أنك قمت غاضبا وخرجت من المطعم وانت تتمتم: “كله بسببي كان عليَّ أن أقف عند بائع (الفلافل).
هذا السيناريو ليس خياليا، بل هو مثال موجود في حياتنا اليومية، فكم هي المؤسسات التي تعجّ بالموظفين من دون فائدة تذكر؟ وكم هي البنايات الخاصة بمشاريع ليس فيها إلا الهواء يحرك الأبواب والشبابيك؟
كل شيء له قيمة؛ فهو له محتوى وهدف أعطى له تلك القيمة، فمثلا المدرسة والجامعة لها قيمة، وقيمتها مأخوذة من محتواها والأهداف الموضوعة لها
وكم هي المساجد التي تسرُّ الناظرين بأشكالها ومناراتها العالية وزخرفاتها التراثية، إلا أن كل عملها رفع الآذان بتسجيل قديم، بل كم هم الأشخاص الذين لديهم من الإمكانيات والطاقات والعلوم ما يغيرون به الواقع وينفعون به المجتمع، لكنهم عطّلوا مواهبهم ودسوا طاقاتهم في تراب الخوف والأوهام.
فتعطيل الأشخاص أو الأشياء أو الطاقات من المشاكل التي يعاني منها البشر، فما هي أسبابها؟
ولماذا لا يُلتفت إليها؟
كل شيء له قيمة؛ فهو له محتوى وهدف أعطى له تلك القيمة، فمثلا المدرسة والجامعة لها قيمة، وقيمتها مأخوذة من محتواها والأهداف الموضوعة لها، فمحتواها تعلّم العلوم والمهارات وأهدافها صناعة جيل من المتعلمين والمختصين بمختلف الاختصاصات ليؤدوا وضيفتهم ويحركوا عجلة الزمن وينفعوا البشر، أما حين تفرغ الجامعة من محتواها وتُهمل الأهداف المرجوة منها، حينذاك يتخرج الطالب من الجامعة لا يملك معرفة ولا ينفع إنسانا، وأهدر أربع سنوات –على الأقل– من عمره في لهو ولعب.
وهكذا المؤسسات والمشاريع والمساجد والتجمعات، حين تُفرغ من محتواها تبقى أشكالها الخارجية وتموت احشائها الداخلية.
إلا أن هذا التفريغ من المحتوى هو الآخر له أسباب، فطبيعة النفس تميل إلى الراحة والسكون، لذا تحب أن تعمل أكثر الأعمال راحة، وتحب تلك الأعمال التي ليس فيها مشاكل او جهد فكري أو بدني هذا من جهة، ومن جهة أخرى إن الإنسان لا يستطيع التنصل من مسؤوليته تماما لذا فهو يعمل العمل لكن يحذف منها غايتها ومحتواها وما يكلفه ثمنا وتعبا ويلتزم بالقشور فقط.
وجذر ذلك كله هو التهرب من تحمل المسؤولية، التي يؤدي إلى ضياع الجهود ودفن الطاقات وعندها تتراجع مسيرة الإنسان لتصل إلى قعر التخلف.
والحل: أن يتعرف الانسان على واقعه، ويعترف بتقصيره، بعد أن يخلع عنه رداء الغرور، ويكف عن خداع نفسه، ثم يتحمل مسؤوليته بصورة كاملة، ويؤدي ما عليه بأتم وجه، وفي ذاك الوقت، سينضح البئر، ويستقى منه الناس، وتخضر به الصحراء، للتحول إلى جنات من نخيل وأعناب، فيها من كل الثمرات.