قال امير المؤمنين عليه السلام: “لا تستحِ من إعطاء القليل فإن الحرمان أقل منه”. (نهج البلاغة، الحكمة:67).
هنالك معادلة تحكم الحياة هي معادلة العطاء، الحياة تعطي أضعافا مضاعفة ولكن بعد أن تعطي لها رأس المال، فالأرض تعطيك غابات وحدائق وبساتين ولكن بشرط ان تعطيها البذور، فأنت تعطي قليلا فتعطيك الحياة كثيرا، إلا أن انتظار العطاء من الأرض دون العطاء لها هو انتظار باطل.
الانسان في هذه الحياة بدون عطاء لا يحصل على شيء إلا ان الذي يـأخذه ليس بمقدار الثمن، فلربما هو أكثر من ذلك بكثير، انت تعطي من وقتك للعلم مقدار سنوات ولكن تحصل من ورائه أكثر مما أعطيت، حينما يصبح الانسان عالما يستفيد كثيرا مع ان أيام الدراسة محدودة، فالطالب الأكاديمي حين يدرس الى ان يتخرج من الجامعة كل ذلك ستة عشر عاما وعلى أكثر التقادير عشرين عاما، لكنه سيستفيد من علمه ما دام حيا في الأرض سبعين عاما او أكثر او اقل.
هذه هي معادلة العطاء، لا بد ان نعرف أن سنّة الله في الأرض قائمة على ان يعطي الله الكثير بعد ان يعطي الانسان القليل، وكما ان هذه السنّة حاكمة في الماديات، قال تعالى: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}، ذات السنة حاكمة في المعنويات، في الحديث القدسي: “أنا عند ظن عبدي فليظن بي ما شاء وانا مع عبدي إذا ذكرني فمن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ومن تقرب إلى شبرا تقربت اليه ذراعا ومن تقرب إلى ذراعا تقربت اليه باعا ومن اتاني مشيا اتيته هرولة ومن اتاني بقراب الأرض خطيئة اتيته بمثلها مغفرة ما لم يشرك بي شيئا” الخطوة الأولى من الانسان نفسه، وهي سنة حاكمة في الفرد كما هي حاكمة في يرتبط بالجماعة.
الذي يربي تلميذا لفترة من الزمن سيجده في المستقبل شيئا كبيرا، وكذلك الوالدين اللذان يتعبان على أبنائهما في بداية حياتهم ستُقر اعينهما في الكبر، فمن يضيع اللبنة في الصيف سيتورط في الشتاء، وإذا لم تزرع في الربيع فلن تحصل على شيء في الصيف والخريف والشتاء، وإذا لم تدرس في بداية حياتك ستكبر وانت أميٌ، هذه هي معادلة الحياة فيما يرتبط بالأخذ والعطاء.
ميزان العطاء الاولي
السؤال هو: ما هو ميزان العطاء الاولي؟
الجواب: النسبة هي التي تحكم ميزان العطاء؛ بنسبة ما تـأخذ يجب ان تعطي، والنسبة ليست كل ما يملك الانسان، لنفترض ان أحدهم يملك مليونا فهو يعطي بمقدار الخُمس او الزكاة، او بمقدار النصف مثلا، فالله لم يحدد ميزانا للعطاء، إنما حدد نسبة، فحينما يريد الانسان ان يفتح محلا تجاريا يجب ان لا يضع البيض كله في سلة واحدة، بأن يجعل كل رأس المال في ذلك المشروع، بل يقتطع مما يملك لربما يخسر.
الانسان في هذه الحياة بدون عطاء لا يحصل على شيء إلا ان الذي يـأخذه ليس بمقدار الثمن، فلربما هو أكثر من ذلك بكثير
ولا يقارن المليونير نفسه بالفقير في النسبة، فما دام الفقير ـ مثلا ـ دفع لمشروعٍ إنساني او إسلامي مئة فإن ذلك يساوي نصف ما يملك، والغني الذي يدفع مليون فإن هذه تساوي واحد بالمليون لما يملك.
حينما نطلب من الناس نسبة مما يملكون فإننا نضع رأسا مالا كثيرا لتنمية الحياة؛ فإذا كان كل الناس يعطون بنسبة ما يملكون، واخذنا بعين الاعتبار الجماهير الكثيرة الذين يؤمنون بالإسلام لأصبح ما بأيدينا كثيرا، فأكثر من مليار إنسان يشكّلون الامة الإسلامية، لنفترض أن كل واحد اعطى دولارين مثلا للمشاريع الخيرية والإنسانية، قد يكون هذا السعر قليل بالنسبة لدخل البعض الشهري، لكن دولارين الى جنب دولارات الآخرين يعني مليارات الدولارات، وهذا المبلغ لو وجد سيحدث معجزة في الوسط الإسلامي.
يقول أحد السائحين: دخلت ذات مرة وكنت في الصين الى مطعم وحينما اكلنا كانت بعض حبات الأرز تتساقط على أطراف السفرة، فجاء شخص وجمع تلك الحبات المتساقطة في صحن نظيف واخذها معه، يقول السائح: التفت الى مضيّفي: ما هذا العمل؟
قال: نحن لا نسمح بأي حبة تسقط على الأرض بدون أن يستفيد منها إنسان.
قلت: ولماذا؟
قال: تصوّر ان أكثر من مليار إنسان يأكلون كل يوم بمقدار ما يشبع بطونهم، ثم لنفترض ان كل واحد منهم رمى بعشر حبات من الأرز على الأرض وأتلفها بدون سبب، يعني انه تم اتلاف أكثر من عشرة مليار حبة من الأرز!
اليوم عدد سكان العالم أكثر من 8 مليار نسمة لو ان كل واحد كان يسير على معادلة الأخذ والعطاء، حينها لن يكون الملايين يعانون الجوع وسوء التغذية. صحيح ان على الأغنياء ان يعطوا، ولكن إذا قصروا، فذلك لا يعني ان لا يقصر الفقراء وعليهم ان يعطوا ولو شيئا قليلا.
زكاة الفطرة في الإسلام يجب أن تُعطى للفقراء، لكن أيضا يُستحب للعائلة الفقيرة لها ان تعطي زكاة الفطرة، فربُ الاسرة يعطي زوجته، والام تعطي ابنها.. وهكذا يمر الأموال على ايدي كثيرة الى ان يصل الى فقير.
صحيح ان الفقير هو أهلٌ لزكاة الفطرة لكنه حين يعطي زكاته لغيره ففي ذلك تعويد للفقير على ان يعطي، لأنه في فقره حينما لا يعطي درهما، لن يعطي مليونا حينما يصبح مليونير، فهذه قضية نفسية ترتبط بمسألة العطاء، فالمؤمن حينما لا يعطي الحقوق الشرعية وهو فقير لن يعطيها حينما يصبح غنيا، لان القلب يزداد تعلقا بالمال كلما ازدادت الثروة.
القليل دائما ليس قليلا؛ فقد يكون كثيرا بالنسبة الى من يأخذ، فسندويشة لجائع لا يملك قوت يومه تشكل غذاءً كاملا وإنقاذ لحياته من الجوع او من الموت.
هل يؤثر العطاء على الفقير؟
الفقراء يمنعهم الحياء من العطاء ومن ثم يترتب على ذلك أمران:
الأول: لا تتطهر نفوسهم.
الثاني: لا يندفع الاخرون الى العطاء. تصور مجلسا فيه فقراء واغنياء، فبادر الفقير وقدم مبلغا من المال ألا يستحي الغني ويعطي شيئا من ماله؟
ليس العيب ان يعطي الانسان مبلغا بسيطا، بل العيب ان لا يعطي شيئا، والاثر السيء الآخر الذي يترتب على ذلك هو اللامبالاة، فأن لا يستطيع أحد ان يساعد كل الجوعى في العالم فلا يعني ذلك ان نترك بعضهم وخصوصا الذي طرق الباب وسأل، والله تعالى يوم القيامة قد يحاسب على الفقير القريب ولا يحاسب على البعيد!
كما أن أمة كبيرة قد تُحيى بكلمة صغيرة وأخرى تموت بكلمة، كذلك المساعدات القليلة قد تنصع شيئا كبيرا، فلربَّ اتصال ينجي أحدهم من الموت، او أموال قليل ترفع حاجة اسرة مُعدمة ويكون ذلك لهم عيدا وكثيرة هي الشواهد، وإذا عدت الى فترة من فترات حياتك حين كنتَ تتمنى مبلغا بسيط من المال ولو وجد لغيّر شيئا كبيرا في حياتك.
ليس العيب ان يعطي الانسان مبلغا بسيطا، بل العيب ان لا يعطي شيئا، والاثر السيء الآخر الذي يترتب على ذلك هو اللامبالاة
“لا تستحِ من إعطاء القليل فإن الحرمان أقل منه” يبدو ان هذه الكلمة ليست موجهة للامة بل للأفراد، فالفرد هو الذي يسمع صوت الفقير والجائع، والعطاء القليل أثر على اقل التقادير فرحة قلب، لو ان إنسان أشعل شمعة لإنسان آخر بعود كبريت وبمقدار ذلك العود يكون قد دخلت الفرحة الى قلبه.
وكم هو جميل أن يقدم الانسان لكل طالب حاجة شيئا مع الاعتذار إن لم يكن يمتلك أكثر، والعطاء القليل يكون صحنا من السكر يُقدم فيه العذر، لكن إذا لم يكن العطاء أساسا لا يوجد صحن.
__________
(مقتبس من محاضرة لآية الله السيد هادي المدرّسي حفظه الله).