الأخبار

مع تخرج عشرات الالاف سنويا من الجامعات؛ أين اختفت الملاكات الوسطيَّة؟

الهدى – متابعات ..

في كل عام، يتخرج عشرات الآلاف من الطلبة في الجامعات، حاملين شهاداتهم وطموحاتهم نحو مستقبل مشرق، لكن عند دخولهم إلى سوق العمل، يصطدمون بواقع مختلف تماماً، حيث يواجهون نقصاً في الفرص الوظيفية، وتخصصات لا تتماشى مع احتياجات المؤسسات.
وهذه الفجوة بين مخرجات التعليم ومتطلبات السوق لم تؤدِ إلى زيادة البطالة فقط، بل تركت آثاراً سلبية على بنية الإدارة الوظيفية في الدولة، فقد أسهم غياب الملاكات الوسطية في تعزيز الخلل الهيكلي للمؤسسات الحكومية والخاصة، ما أضعف قدرة الدولة على تنفيذ الخطط التنموية والإصلاحات الإدارية التي تحتاجها السوق المحلية.
ووتشير الإحصائيات إلى أن نقص الملاكات الوسطية، خاصة في القطاعات الخدمية مثل الصحة والتعليم، يصل إلى 50 %، وهو ما يرجعه الخبراء إلى ضعف برامج التأهيل المهني، واعتماد منظومة التعليم على التخصصات الأكاديمية التقليدية بدلاً من التركيز على الدراسات المهنية والتطبيقية المطلوبة في سوق العمل.
ومع غياب هذه الفئة، باتت المؤسسات تعاني من ضعف الأداء والجمود الإداري، حيث تقف القيادات العليا دون سند تنفيذي، بينما يعاني صغار الموظفين من غياب فرص التطور الوظيفي.
ويرى الباحث والأكاديمي الدكتور خالد العرداوي، أن تراجع الملاكات الوسطية في العراق يعد نتيجة مباشرة لانهيار الوظيفة العامة، خاصة بعد غزو العراق للكويت، حيث تعرض وضع الموظف العراقي إلى تدهور مستمر.
وأوضح العرداوي أن هذا التراجع يعود إلى غياب الاهتمام بتدريب وتطوير الملاكات المتوسطة، إضافة إلى نقص التحديث المستمر للقطاع العام لمواكبة المعايير المهنية الحديثة.
ووفي تصريحه له، أشار العرداوي إلى أن غياب الملاكات الوسطية بات له تأثير واضح في مجالات عدة، من أبرزها إعداد أفراد قادرين على تولي المناصب القيادية العليا، ما أسفر عن بروز “جمود وظيفي” داخل مؤسسات الدولة وتدني مستوى الأداء المهني.
ورغم المحاولات الحكومية لتطوير هذه الفئة، فإن العديد منها لم يكتب لها النجاح نتيجة لأسباب عدة، من بينها ضعف التمويل الحكومي وعدم استمرارية الشراكات الدولية في هذا المجال.
كما نوه العرداوي إلى أن القطاع الخاص لا يمكنه معالجة هذه الفجوة، خاصة في ضوء اعتماده المتزايد على الملاكات الأجنبية، واهتمامه بالربحية السريعة على حساب الجودة والمنافسة في السوق.
وفي ظل الظروف الاقتصادية التي يمر بها العراق، ظهرت في الآونة الأخيرة محاولات لتقليص دور حملة الشهادات المهنية، وتراجع الاهتمام بهذه الفئة التي كانت في الماضي عمودًا فقريًا للعديد من القطاعات.
وتظهر هذه المحاولات بوضوح في سلم الدرجات الوظيفية، وهو ما أكدته التدريسية في إحدى إعداديات الصناعة، إخلاص غازي محمد، في حديث لها.
وأوضحت غازي أن “أغلب الأسباب التي دفعت بعض الطلاب للابتعاد عن الانضمام إلى الأقسام المهنية تتعلق بشكل أساسي بقلة الرواتب والأجور، إضافة إلى تحجيم دور حملة هذه الشهادات مقارنة بحملة الشهادات الجامعية الأخرى”.
وأضافت أن هناك تحديات إضافية، مثل فرض شروط تعجيزية على هؤلاء الحاصلين على الشهادات المهنية لإكمال دراساتهم العليا، وهو ما يزيد من صعوبة تقدمهم الأكاديمي والوظيفي.
وتابعت غازي مشيرة إلى قلة الفرص المتاحة في الدورات التدريبية داخل العراق وخارجه، وهو ما يجعل هؤلاء الخريجين يفتقرون للامتيازات التي يحصل عليها نظراؤهم من أصحاب الشهادات الأخرى. “وفي حين أن الأقسام الأخرى تحصل على فرص للمشاركة في المؤتمرات والندوات العلمية، فإن الأقسام المهنية لا تجد مثل هذه الفرص”، على حد قولها.
هذا الوضع يعكس حجم التحديات التي يواجهها حملة الشهادات المهنية في العراق، ويضعهم في موقف صعب، حيث تتضاءل فرصهم في التقدم الوظيفي وتلقي الدعم الذي يساعدهم في التطور المهني.
وفي هذا السياق، يرى الخبير الاقتصادي مصطفى أكرم حنتوش أن “أقسام الصناعة والتجارة والإعداديات المهنية كانت سابقاً تخرج ملاكات فنية معتمدة وخريجين مستعدين للعمل، وكان لهذه الأقسام دور محوري في التطور التنموي للعراق”.
ويضيف أن هذه الأقسام كانت تمثل العمود الفقري للعديد من المجالات، بما في ذلك الإدارة والمالية والصناعة والزراعة، وكانت تخرج كفاءات عالية من حملة شهادات الإعدادية والمعاهد والبكالوريوس.
وأكد حنتوش أن العراق بحاجة إلى إحياء هذه الأقسام المهنية لاستعادة التوازن في سوق العمل، مشيراً إلى أن وزارة التخطيط تشير إلى أن هذه الأقسام تشكل نحو 15% من القوة العاملة في البلاد. وأوضح أنه من الضروري التوجه نحو الشركات وتقديم مقترحات تشريعية لدعم هذه الكفاءات واستثمارها بالشكل الأمثل، مؤكدًا أن إحياء هذه الأقسام سيكون خطوة حاسمة نحو تطوير سوق العمل وتلبية احتياجاته المتزايدة.
بدوره أشار المتحدث باسم وزارة التربية، كريم السيد، إلى أن غياب الملاكات الوسطية في النظام التعليمي والوظيفي والخدمي أصبح ظاهرة واضحة، مشددًا على أن هذا النقص أدى إلى فقدان التوازن الاستراتيجي في الخطة التعليمية.
وأوضح السيد أن “السبب الرئيس لذلك هو أن الجيل الحالي من الموظفين يتوجه نحو التقدم الوظيفي بشكل مفرط، حيث يتم الانتقال من المعلم إلى المدرس بمجرد حصول الموظف على فرصة التفرغ الدراسي لإكمال دراسته والحصول على درجة البكالوريوس”.
وأضاف أن هذه الظاهرة تسود بنسبة 70% من ملاكات الدولة التعليمية، حيث أصبح الموظفون يركزون بشكل أساسي على السعي نحو درجات وظيفية أعلى وتحقيق درجات دراسية متقدمة.
وفي ما يتعلق بالخطط التدريبية، أكد السيد أنه في المديرية العامة لإعداد المعلمين في وزارة التربية يتم تنفيذ برامج تدريبية خاصة بالملاكات الجديدة، سواء من المحاضرين المثبتين أو من العاملين بنظام العقود. وقال: “الملاكات بحاجة إلى التدريب واكتساب الخبرة، وهذه الآليات جزء من البرنامج الحكومي المعتمد”. وأكد أن الوزارة بحاجة ماسة إلى معلمين مؤهلين وموظفين في قطاعات الخدمات التعليمية.
وأشار السيد أيضًا إلى أن وزارة التربية أنجزت مؤخرًا أكثر من 100% من خططها التدريبية للملاكات الوظيفية، خاصة من خريجي إعداديات الصناعة والتجارة والتعليم المهني، وذلك في إطار سعيها لتطوير الكفاءات المتوسطة. وأضاف: “عملنا على سد الشواغر في الوزارة حتى من خلال توظيف حملة الشهادات العليا والأوائل الذين غالبًا ما يتقدمون للحصول على مناصب إدارية في وزارات أخرى، مثل وزارة التعليم العالي”. ومع ذلك، أكد أن البلاد ما زالت بحاجة ماسة لهذه الملاكات الوسطية في القطاع التعليمي والخدمي.

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا