حدیث الناس

شهر الصيام وفرصة التقارب الاجتماعي

على مدار السنة نعيش حالة الفردية والذاتية بسبب التسابق على المال والامتيازات في زمن تتراجع فيه المعنويات تدريجياً أمام غزو الماديات لكل تفاصيل حياتنا بما لا يجعل الجار لا يرى جاره حتى لا يثقل عليه بطلب، والطالب لا يتحاشى النظر الى زميله حتى لا يأخذ شيئاً من علمه وذكائه! وهكذا في ميادين العمل الإداري والتجاري، وفي الشارع، بل وحتى بلغ التراجع الى داخل الأسرة الصغيرة، فبالكاد ينظر الأب أو الأم الى أبنائهم، والعكس ايضاً، بسبب الموبايل والانترنت.

بالأول اتساءل إن كان الناس –وحديثنا هو حديث الناس- ينتظرون حلول شهر رمضان المبارك كما ينتظرون لحظة وصول الراتب على بطاقات “الماستر”؟!

من بقايا الطيبة في النفوس، ينتظر الناس الساعات الأخيرة قبل أذان المغرب وموعد الإفطار لتبادل أطباق الطعام في أجواء مفعمة بالودّ والاحترام بين الجيران، الى جانب سنّة الإفطار الجماعي، وايضاً؛ ما تقدمه بعض المؤسسات الدينية والخيرية من سلات غذائية للعوائل الفقيرة، وهي سنّة جميلة أخرى نعدها من بركات هذا الشهر الكريم، ولكن!

أيام شهر رمضان، وما يتخلله من ساعات الصيام والإمساك، لها من الأبعاد والتأثيرات المفترضة –طبعاً- ما تستوعب تلكم العادات والتقاليد وتجعلها حبّة سكر في بركة ماء كبيرة، هل يتوقع أن تؤثر فيه شيئاً؟! فإلى جانب العبادة، فان البعد التربوي، والاجتماعي، والنفسي، والإنساني حاضرة في معاني الإمساك عن الطعام في هذا الشهر الفضيل، عن الإمام الصادق، عليه السلام: “إِذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ، وَ بَصَرُكَ، وَ شَعْرُكَ، وَ جِلْدُكَ، ـ وَ عَدَّدَ أَشْيَاءَ غَيْرَ هَذَا يقول الراوي- ولَا يَكُونُ يَوْمُ صَوْمِكَ كَيَوْمِ فِطْرِكَ”، ومن نافلة القول في هذا السياق: أن “من صام صامت جوارحه”، مقولة مأثورة وليست رواية عن المعصوم، بعد التحقق منها.

صحيح أن الصيام عبادة فردية، وعملٌ بين العبد وربه، بيد أن مدرسة شهر رمضان تنقلنا من نجاح الصيام وفق الشروط والمواصفات التي حددها لنا رسول الله والأئمة المعصومون، عليهم السلام، في علاقتنا مع الله –تعالى- الى نجاح آخر في علاقاتنا الاجتماعية والأسرية

وفي رواية مشهورة عن النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، دعا فيها إحدى النساء الى الإفطار في نهار شهر رمضان، وعندما استفهمت الأمر قال: “كيف تكونين صائمة وقد سببت جاريتك”، وهنا إشارة طريفة ومعبرة في هذه الرواية، فالشخص الذي تعرض للسبّ لم يكن أخ، او أخت، أو ابن، أو صديق، -كما المعمول لدى البعض- إنما لامرأة ليست حرّة، يعني أَمَة مملوكة، في ذلك الزمان كانت تباع وتشترى مثل مستلزمات البيت، مهمتها العمل داخل البيت، مع ذلك فان البعد الإنساني له بصمته –كما سائر الابعاد- على الصائم ليكون صيامه وإمساكه عن الطعام مستوفي شروط القبول من الله –تعالى-، ولا يكون مجرد تحمل ساعات الجوع والعطش. 

صحيح أن الصيام عبادة فردية، وعملٌ بين العبد وربه، بيد أن مدرسة شهر رمضان تنقلنا من نجاح الصيام وفق الشروط والمواصفات التي حددها لنا رسول الله والأئمة المعصومون، عليهم السلام، في علاقتنا مع الله –تعالى- الى نجاح آخر في علاقاتنا الاجتماعية والأسرية، فعندما يسود الاحترام بنسبة أكبر، وتنتشر ظاهرة التكافل والتعاون والايثار، نعرف أننا استوفينا شروط الصيام المطلوبة الى حدٍ ما.

ثم لا ننسى أننا نستقبل الشهر الكريم، علينا الانتباه الى سرعة انقضاء أيامه ولياليه، فهو المائدة الرحمانية العظيمة لكل واحد منّا، فيطمع أن يكون من المرحومين ولا يكون من المحرومين، وهذه الرحمة المرجوة من السماء، تتعلق بنسبة منها بالرحمة النابعة منّا نحن على هذه الأرض، فهل نتوقع الرحمة الإلهية تنزل علينا من السماء دون أن نمارس الرحمة ونجربها بأنفسنا على الأرض فيما بيننا؟

نسأل الله لنا وللجميع هذا التوفيق العظيم في المضي بهذين الخطين المتوازيين طيلة أيام وليالي شهر رمضان المبارك، علّها تترك آثارها وانعكاساتها على حياتنا في سائر أيام السنة لنتفوق على كل ما نعده مشكلة أو أزمة.

عن المؤلف

محمد علي جواد تقي

اترك تعليقا