إضاءات تدبریة

صفات العاقل في القرآن الكريم.. الطبيعة عندما تكون معلّمة للإنسان

{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. (سورة غافر، الآية:67).

نحن البشر بحاجة الى تطلّع، وذلك يعني وجود الهمة واستشراف المستقبل، ويكون بأن يحترم الانسان نفسه، ولا يعتقد انه كبهيمة او كبقية الأنعام، ونحن كبشر خلق الله منا النبيين والصديقين والصالحين، فلماذا لا نسعى لنكون في مصافهم ومعهم؟

التحولات في الطبيعة من حولنا ذات دروس وعبر، وإذا استطعنا ان نكون تلاميذ جيدين لهذا الأستاذ العظيم (الخليقة من حولنا) فنحن في كل يوم نتكامل، ونتسامى، صحيح ان الانسان بحاجة الى وسائل يتعلّم من خلالها؛ كالمدرسة والحوزة والجامعة وما اشبه، لكن الحقيقة ان الانسان بحاجة الى ان يفتح قلبه ويكبر عقله، وتكون لديه بصيرة، وحين يصل الفرد الى هذه المرحلة فإنه يختلف جذريا عن غيره.

والتحولات الكبرى هي افضل وسيلة للفهم، فالإنسان يستطيع معرفة الحقيقة، سواء كانت في نفسه، ام المجتمع، ام في الطبيعة، حين التحولات والتغيير، لأنها لا تكون إلا بعوامل ومعرفة هذه العوامل التي سبب التحولات تكون ذات قيمة وهي الدرس الذي يستفيد منه الانسان.

والله ـ تعالى ـ في آيات القرآن الكريم يبين حقيقة التحولات التي يعيشها، منذ أن كان نطفة الى ان يصبح جنينا، ثم التحولات الأخرى التي تطرأ عليه في مراحل حياته المختلفة، من الطفولة مرورا بمرحلة الشباب، وصولا الى الشيخوخة.

والانسان لا يستطيع ان يغيّر من تلك التحولات التي فُرضت عليه، فمَن وصل الى مرحلة الشيخوخة ليس بمقدوره ان يرجع نفسه الى مرحلة الشباب، وليس بوسعه إلا ان يردد قول الشاعر:

ألا ليت الشباب يعود يوما

لأخبره بما فعل المشيب

وحين يتقدم العُمر بالإنسان تبدأ طاقاته تخور، قال ـ تعالى ـ: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ}.

كل التحولات التي تجري في حياة الانسان لو حولناها الى دروس فهي تنفعنا في التكامل والتسامي

وإذا فكّر الانسان كيف كان نطفة في صلب أبيه، ثم امشاج في رحم امه، وبعدها رضيع في حضن أمه، إذا فكّر في كل ذلك لا يتذكر كيف حصل ذلك، لكن باستطاعة الانسان ان يدرك هذه التحولات من خلال الآخرين، فإذا كان أب فهو يعرف تلك الحقيقة عبر أولاده، كيف كانوا وأين اصحبوا!

والانسان بما هو عليه الآن من هيأة كانت بدايته جزء من ملي متر {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً}، في تفسير هذه الآية؛ عن عبد الله بن بكير عن زرارة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قوله: {لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} قال: كان شيئا ولم يكن مذكورا. والشيء غير المذكور أن الجنين بعد ان يكون طفلا ويصبح كبيرا سيكون له شأناً وكيف يكون ذلك، لابد أن نفكّر فيه!

كل التحولات التي تجري في حياة الانسان لو حولناها الى دروس فهي تنفعنا في التكامل والتسامي، ولنضرب مثلا بسيطا من حياتنا؛ حينما لا نأكل لا يمكن ان نكبر، وان نصير أقوياء، فكما اننا بحاجة الى الطعام وبعض الأمور الأخرى لكي نستمر في الحياة، كذلك عقولنا بحاجة الى دروس حتى تكبر، فكما ان الجسم يحتاج الى فيتامينات مثل د ، س، وما اشبه كذلك العقل بحاجة الى فيتامينات التعلم، والتفكّر، والدراسة وما اشبه، أما من يريد ان يبقى قزما في علقه فهو لا يسعى الى فيتامينات العقل، والبعض جسمه كبير وعقله قزم، وإرادته ضعيفة.

{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} الانسان الاولي خلقه من تراب ثم تدرج عبر الاصلاب والارحام الى يصبح بهيأة الآدمي، وحين أمر الله ابليس بالسجود لآدم تكبر وقال مقولته: ان الانسان مخلوق من طين، وانا من نار ولا يمكن ان اسجد لآدم!

وغلطة ابليس اعتقاده ان النار افضل من الطين، والحقيقة ليس كذلك، فالطين أفضل من النار، لأنه من النار خلق الله ابليس والجن، والانسان خُلق من الطين وهو افضل، فخصائص التراب كبيرة: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}، وعلماء الطبيعة ربما اثبتوا ان مواد التراب نفسها موجودة في الانسان، وحين يعاد الانسان الى التراب يتحلل ويصبح تراب وكأنه لم يكن جسما.

وهنا بصيرة مهمة؛ أمير المؤمنين، عليه السلام، كان يُطلق عليه أبا تراب، فقد كان نائما في مسجد رسول الله، صلى الله عليه وآله، فجاء النبي الاكرم، وايقظه وقال: قم يا أبا تراب، وأمير المؤمنين، عليه السلام، على عظمته كان ترابي الخصلة، وربما هذه فضيلته عليه السلام، لأنه لم يفكر في يوم من الأيام بنفسه، فهو يعد نفسه ترابا امام الله سبحانه وتعالى، وكل إنسان اذا وصل الى هذه الحقيقة يختلف تمام في وعيه وإدراكه.

{ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} المسافة بين الحالة الترابية وحالة النطفة كالمسافة بين الأرض والسماء، فالنطفة فيها مقومات النمو وتتميز عن التراب بأمور كثيرة.

{ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} أي يصبح الانسان قطعة لحم وهذا يكون في بداية تكوّن الجنين في بطن أمه، وبنظرة الى بعض الحوامل التي يسقطن لسبب او لآخر تجد ان السقط عبارة عن قطعة لحم.

{ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} من الجيد أن نقرأ في كتب حول نشأة الانسان منذ ان كان في صلب ابيه، ثم الانتقالة الى رحم الام، ومن الأمور العجيبة كيف ان النطفة بشكلها الاولي في صلب الى امشاج في رحم الام، وقد أكد أحد الأطباء المختصين ان تلاقح بين مني الرجل وبويضة المرأة عبر خلايا تحاول تكييف جسم المرأة لطبيعة الخلية التي في النطفة، والمرأة بعد ان تنجب طفلا يكون هناك تحول في حياتها، فخصوصيات الرجل انتقلت الى المرأة، لذلك تجد في بعض الأحيان لا يقبل جسم المرأة تلك الخلية فستقط النطفة.

ومن العجائب الإلهية ان الجنين في بطن امه يتغذى من دم امه، وبعد ان يخرج الى الحياة، ويكون جنينا يتغذى من نفس المصدر فيتحول الدم الى حليب، ولذلك يوصي الأطباء المختصون انه يجب ان يرتضع الجنين بعد خروج مباشرة من بطن، لان ذلك الحليب يحتوي على أمور كثيرة تساعد الجنين في اكتساب المناعة حتى لا يصاب بالأمراض لاحقا.

كل إنسان اذا وصل الى الحقيقة يختلف تماما في وعيه وإدراكه عن غيره

 ومن العجيب أيضا ان الله تعالى يلقي في قلب الام محبةً عظيمة تجاه ولدها، سواء كان جنينا ام طفلا، وكثير من الأحيان تضحي الام وتصل الى الموت من اجل طفلها،

{ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً} ومن الطفولة المبكرة الى ان يصبح شابا يمر بمراحل عديدة، ومن ثم يصبح شيخا كبيرا.

{وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ} البعض يموت قبل الشيخوخة، “كفى بالأجل حارسا”

{وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى} فعمر الانسان مكتوب؛ حياته، ورزقه، وبقية تفاصيل اموره الأخرى.

{وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وكل التحولات التي تجري على الانسان إنما هي في مصلحته لكي يعقل الحقائق ويدركها، ويعرف ربه وخالقه، وإلا فإن باستطاعة الله أن يخلق ملايين البشر في لحظة واحدة {كُنْ فَيَكون} ويجعل أعمارهم مثلا في سن الثلاثين، ثم بعد ذلك يميتهم أيضا بلحظة، وتلك التحولات لها دور كبير في حياة الانسان خصوصا في معرفته بربه، وان الأمور بيد الله ـ تعالى ـ.

اذن؛ إذا عرف الانسان ان لديه أجلا محددا سيكون عاقلا، ولذا على الانسان المؤمن ان يفهم الحياة ولا يكون كالبسطاء الجهلاء الذين ينظرون الى الظاهر من الامر، والمؤمن هو ذلك الانسان العاقل الذي يفهم الحقائق ليفهم بذلك الحياة.

_______  

(مقتبس من درس التفسير الموضوعي لسماحة المرجع المدرّسي دام ظله).

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا