قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “المال مادة الشهوات”
ما دام أن الانسان مركب من روح الله ومن حمأ مسنون وما دام انه يعيش صراعا داخليا بينه وبين الشيطان، فمن الطبيعي ان تراوده نية الخير وإن كان شريرا، كما من الطبيعي ان تراوده نية الشر وإن كان خيّرا، فالشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم؛ يوحي اليه بالموبقات ويزيّن المعاصي.
النية تتوفر، والانسان إنما يثاب على الصالحات لأنه دائما يكون هدفا لنيات السوء من قبل الشيطان في داخله، أي ان الانسان الخيّر دائما يقاوم نية الشر في داخله، النية تراوده لكنه يطردها.
ومن هنا فحتى الأنبياء، يلقي الشيطان في امنياتهم، الناس كبشر لهم شهوات ورغبات، والشهوات لذيذة، وباعتبار الناس بشر يميلون اليها: {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ}، حتى النبي الذي يصفه القرآن الكريم بالصدّيق يطلب من الله ــ عز وجل ــ ان يبعد عنه النساء وإلا فإنه سيميل اليهن.
نية الشر تبقى في منطقة النية إذا لم توجد وسيلة لتنفيذها، فمن الطبيعي ان يرغب الانسان في اشباع شهوات الجنس، والبطن، والسلطة، والمال وما اشبه، لكن لا يجد وسيلة لتطبيق تلك النية، او اشباع شهوة من حرام.
وتلك الوسيلة هي المال، لأنه “مادة الشهوات” فبالمال يعصي الانسان ربه، صحيح ان كثيرا من الناس يعصون خالقهم عن طريق غير المال، لكن أكثر المعاصي تأتي عبر المال، فالبعض إن وجد مالا يدخل في الربا، ويشتري الحرام، ويصرفه في الشهوات الحرام، ويشتري به السلطان، فالمعاصي التي تأتي على ظهر المال أكثر من المعاصي التي تأتي على ظهر الفقر.
المال يجب ان يبقى وسيلة في سبيل الخير والصلاح، ولذا لابد من إبعاده كهدف، وكمادة للشهوات، وإلا فإن المال يفسد الضمائر
المال سبب كثير من المعاصي على وجه الأرض، ومنها الفساد، وبنظرة الى المجتمعات الغنية، تجد عوائل تملك المال، وأخرى لا تملكه، وإذا فرزنا المجتمع الى فئتين؛ قائمة الخيّرين، وقائمة الأشرار، فأين سيكون أصحاب المال؟
طبعا، هناك استثناءات ـ عادة ـ في كل شيء، وفي كل موقع، ولكن دائما يكون أصحاب المال ضمن الأشرار، لا مع الاخيار، ولذلك جاء في الآيات القرآنية المباركة، وعلى لسان النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، والائمة الأطهار، الكثير من التحذير عن آفات المال.
لا شك أن المال وسيلة، فإن استعملت في الخير كان المال خيرا، والقرآن الكريم يسمي المال خيرا في بعض آياته: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}، {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ}، الخير يعني المال، وفي آية ثالثة: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً}. الانسان بطبعه يميل الى المال لأنه يفتح له الطرق. قيل لاحد الاخيار هل تحب المال؟ قال: حبذا المال اصون به عِرضي واقرضه ربي فيضاعفه لي، فهنا حب الخير والآخرة.
الآثار السلبية للمال
كثيرة هي الأمور التي يفسدها المال؛ فقد يفسد الصداقات، فكم من أصدقاء كانوا يعيشون عيشة هنيئة وفي إخوّة كاملة، حتى دخل المال بينهم ففرقهم ومزقهم، فكم من صديقَين لم يدخل بينهم المال والربح، او التجارة، كانا أصدقاء فترة طويلة من الزمن، ثم دخل المال بينهما ففرقهما!
وهناك فساد آخر للمال، فالمال الذي يذهب من اجله وعاظ السلاطين الى الحكّام فهذا هو الشيطان بعينه الذي يُعبد من دون الله، قال أمير المؤمنين، عليه السلام “إذا رأيت العلماء على أبواب الملوك فقل بئس الملوك وبئس العلماء، وإذا رأيت الملوك على أبواب العلماء فقل نعم الملوك ونعم العلماء”، فإذا كان المَلك يذهب الى القيم فهو نعم الملك، ولكن العالم إذا كان يذهب الى الحاكم فبئس العالِم.
عندما فُتحت ايران على ايدي المسلمين وحين دخل مندوب المسلمين الى قصر كسرى رفض الجلوس على سجادة مرصعة بالذهب والجواهر، وقال لكسرى: إنما اصحابي يجلسون على التراب فلا اجلس على سجادة
وبعد فترة من الزمن على تلك الحادثة، دخل المال في حياة المسلمين، وبدأوا التنافس على حطام الدنيا، فإذا بمُلك الري يكون سببا في مقتل الإمام الحسين، عليه السلام، هي ذاتها ايران، في فتحها كان المسلمون لا يرغبون في المال، بل كان يدعون الى القيم، ولكن حينما تدخل ايران في مواد التنافس بين المسلمين، يجعل ذلك التنافس عمر بن سعد يقود جيشا لجبا لمقاتلة الحسين بن علي، عليهما السلام، سيد شباب أهل الجنة، وابن فاطمة الزهراء، عليها السلام.
المال يجب ان يبقى وسيلة في سبيل الخير والصلاح، ولذا لابد من إبعاده كهدف، وكمادة للشهوات، وإلا فإن المال يفسد الضمائر.
أمير المؤمنين، عليه السلام، كان لا يبقي من المال شئيا عنده، من الضرائب، والأخماس، والزكوات، الى الليل، ويقول ان رسول الله، صلى الله عليه وآله: لم يكن يبيته لغده وإن أبا بكر كان يبيته لغده وإن عمر صنع الدواوين وعثمان كان يؤخره الحول والحولين.
مشكلة المال في الواقع ترجع الى طبيعة الانسان؛ فتكون بسببه طبقية مستضعفة، ومترف ومحروم، ومشاكل كثيرة في هذه الأرض سببها المال، فهو مخيف ومرعب ومؤذي إذا لم نحسن التصرف معه.
وإذا نظرنا الى أخلاق الأغنياء واخلاق الفقراء نجد الفرق بينهما، فإذا عاش إنسان مع الفقراء ينظر الى المال كشيء تافه فعلا، فيجد المال على حقيقته، وأنه لا يستحق الانتحار من اجله، لكن حين يضع الانسان قدمه مع الأغنياء يجد الامر مختلف تماما، فحديث الأغنياء يكون في الأمور المادية، في الديكورات، وألوان السيارات، وعلى الأرباح وما اشبه.
مشكلة المال في الواقع ترجع الى طبيعة الانسان؛ فتكون هناك طبقية مستضعفة، ومترف ومحروم، ومشاكل كثيرة في هذه الأرض سببها المال
قال الإمام الكاظم (عليه السلام): أوحى الله تعالى إلى داود (عليه السلام): “يا داود، حذر وأنذر أصحابك عن حب الشهوات، فإن المعلقة قلوبهم بشهوات الدنيا قلوبهم محجوبة عني”، فمن حُجب العقل والضمير والأخلاق المال الذي هو مادة الشهوات.
وفي رواية أخرى عن أمير المؤمنين، عليه السلام: “كن بمالك متبرعا وعن مال غيرك متورّعا”.
إذن؛ المال يُصرف لحاجة الانسان فإذا لم يحتج إليه فإن غيره محتاجا؛ كأن يكون زميل، او صديق، او جار، وبهذا يكون المال وسيلة للخير، أما إذا كان المال يُجمع للشهوات فهو مال شرير وعلى الانسان المؤمن ان لا يقع في هذه الحالة.
____________
(مقتبس من محاضرة لآية الله السيد هادي المدرّسي حفظه الله).