حمل أربعة من السجانين جنازة الإمام موسى بن جعفر، عليه السلام، من احدى سجون بغداد، وأخذوه الى وسط الجسر ووضعوه هناك، ثم نادى المنادي من البلاط العباسي: «هذا إمام الرافضة، وقد مات حتف أنفه، فليأت كل من يريد النظر اليه…»، فكان الناس يتفرّسون في وجه الإمام استجابة لنداء البلاط وتأكيداً لمدعاه بأن الامام لم يمت مقتولاً، وكان من بين هؤلاء الناس؛ جمعٌ من فقهاء بغداد ووجهائها ليؤكدوا لهم بأن الامام توفي بشكل طبيعي من دون تقصير من السلطات الحاكمة، وكان من بين هؤلاء «الهيثم بن عدي وغيره، فنظروا ولم يجدوا أثراً لجراح او خدش، وأشهدهم السندي بن شاهك – قاتل الإمام- على انه مات حتف أنفه، فشهدوا على ذلك!
علماً أن هذا التضليل لم يُجدِ نفعاً بعد أن جاء طبيب مسيحي الى جنازة الامام الكاظم، وبعد أن كثر التشكيك بين الناس، فنظر في راحة كف الامام ثم قال للناس: ان هذا الرجل قتل بالسمّ، فقولوا لعشيرته ان يطالبوا بدمه.
هنا انفجرت قنبلة مدوية بوجه هارون العباسي، فتدارك الأمر وألقى بمسؤولية الجريمة على السندي بن شاهك، ثم أخذ يلعن الاخير ليبين للرأي العام براءته من الجريمة، فاستدعى سليمان بن أبي جعفر، وهو أحد ابرز السفاحين في حكومة هارون، وأمره بأن يكرّم جنازة الإمام لامتصاص نقمة الجماهير، فأخذ الاخير بإظهار الحزن فنزل من قصره ورمى عمامته وشقّ جيبه وأمر غلمانه وشرطته بإبعاد السجانين من حول الجنازة، وأمر المنادي بأن: «من اراد أن ينظر الى الطيب ابن الطيب، والطاهر ابن الطاهر، فليحضر جنازة موسى بن جعفر»!
ثلاثة أيام وجنازة الإمام الكاظم، عليه السلام، على جسر بغداد بهدف كسب الرأي العام لصالح الدولة العباسية، وبما يبرئها من دم الامام الكاظم، عليه السلام، فقد وضع محضراً بالقرب من الجنازة يوقع فيه من يرى الجنازة على أن الامام لم يُقتل مسموماً بأمر من هارون الرشيد، وهذه تمثل سابقة خطيرة في حينها لم تعهدها الأمة منذ واقعة كربلاء، وما جرى على الإمام الحسين، عليه السلام.
دولة داخل دولة
هذا الإمعان في الاضطهاد ومحاولة تغييب حقوق أهل البيت، عليهم السلام، لم يكن إلا عندما يتعاظم خطرهم على السلطة، ففي عهد الامام الكاظم، عليه السلام، كان الشيعة قد أوجدوا «دولة داخل دولة»، كما يصف ذلك سماحة المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي في «التاريخ الاسلامي – دروس وعبر»، ونجحوا في اختراق البلاط العباسي، وكان العديد من العاملين في حكومة هارون ينتمون إلى التيار الرسالي، ويؤدون أدواراً هامة ومصيرية ضمن توجيهات الامام، عليه السلام، وكان ذلك يتم ضمن تنظيم دقيق وسرية تامة، ولعل الاسم البارز من هؤلاء؛ علي بن يقطين، أحد أبرز الوزراء في بلاط هارون العباسي، وهذا ما استشعره الاخير وحاول الكشف عن خيوط هذا التنظيم وإمساك احدهم بالدليل القاطع، فلم يُفلح ابداً، لذا توسّل بالجواسيس والعيون، وايضاً بشراء الذمم؛ تماماً كما فعل معاوية وابنه يزيد لمواجهة التيار الرسالي في عهد الإمامين الحسن والحسين، عليهما السلام، وحتى هاتان المحاولتان لم تفلحا بالمرّة في تطويق انتشار التشيع وامتداد ولاية الإمام الكاظم بين الامة، فكانت تجبى اليه الحقوق الشرعية من أقصى خراسان ومن الامصار الاخرى دون أن يتمكن هارون وأعوانه من فعل شيء.
المشكلة الكبرى أمام هارون العباسي، كما هي مشكلة أي حاكم مستبد؛ الشريحة المثقفة في المجتمع، التي كانت آنذاك متمثلة في الفقهاء والمحدثين والعلماء والشعراء وايضاً المتكلّمين (الفلاسفة)، فكان لهؤلاء تأثير كبير على الرأي العام، الامر الذي استدعى هارون لاستمالتهم والاغداق عليهم، وعلى وجه التحديد الشعراء، وقد حفلت المصادر التاريخية بوقائع مثيرة من علاقة عدد كبير من هؤلاء بالبلاط، وكيف أن آلاف الدنانير والدراهم كانت تنثر للمتزلفين والمداحين، واذا كان لهؤلاء تأثيراً على العواطف، فإن للعلماء والفقهاء تأثيرٌ على القلوب والعقول.
جاء يحيى بن خالد البرمكي الى هارون ذات يوم وقال له:
يا أمير المؤمنين! اني قد استنبطت أمر هشام – هشام بن الحكم، من خلّص اصحاب الامام الصادق والكاظم، عليهما السلام – فاذا هو يزعم أن لله في أرضه اماماً غيرك مفترض الطاعة، قال هارون: سبحان الله!! قال يحيى:
نعم؛ ويزعم أنه لو أمره بالخروج لخرج. فقال هارون ليحيى: فاجمع عندك المتكلمين، وأكون انا من وراء الستر بيني وبينهم لئلا يفطنوا بي، ولا يمتنع كل واحد منهم أن يأتي بأصله لهيبتي.
وكانت هذه حيلة من يحيى البرمكي لجمع أهل الكلام والجدل وطرح موضوع الإمامة والولاية والقيادة فيما بينهم، وعندما تعييهم النتيجة بسبب منهجهم الجدلي العقيم، يقترح عليهم استقدام هشام ليكون حكماً في هذه القضية، جاء هشام الى المجلس الملغوم، وبعد شكوكه بنوايا البلاط من هذه الدعوة لما له من الفراسة والنباهة، وحسب الرواية؛ فانه كان معتلّ الحال، وقد عقد النية للتوجه الى الكوفة «ليقطع عنّي مشاهدة هذا الملعون – يحيى البرمكي -».
دخل هشام الى المجلس وجلس قريباً من يحيى فبدأه بالقول:
انّا قد اعرضنا عن المناظرة والمجادلة منذ اليوم، ولكن؛ إن رأيت ان تبين عن فساد اختيار الناس الامام، وأن الامامة في آل بيت الرسول دون غيرهم؟
قال هشام: ايها الوزير؛ العلّة تقطعني عن ذلك، ولعل معترضاً يعترض، فيكتسب المناظرة والخصومة، قال:
ان اعترض معترض قبل أن تبلغ مرادك وغرضك، فليس ذلك له، بل عليه أن يحفظ المواضع التي له فيها مطعن.
فبدأ هشام بالحديث، ولما فرغ من الكلام في فساد اختيار الناس الامام، قال يحيى لسليمان بن جرير: سل ابا محمد عن شيء من هذا الباب، فقال سليمان لهشام: نعم! فان أمرك الذي بعده بالخروج بالسيف معه تفعل وتطيعه؟ قال هشام: لا يأمرني، قال: ولِمَ، اذا كانت طاعته مفروضة عليك؟ فقال هشام: عُد عن هذا، فقد تبيّن فيه الجواب، قال سليمان: فلم يأمرك في حال تطيعه وفي حال لا تطيعه؟ قال هشام:
ويحك! لم أقل لك أني لا أطيعه فتقول: ان طاعته مفروضة، إنما قلت لا يأمرني، فقال سليمان:
ليس اسألك إلا على سبيل سلطان الجدل! ليس الواجب أنه يأمرك، فقال هشام كم تحوم حول الحِمى؟! هل هو إلا ان اقول لك: إن أمرني فعلت، فتنقطع أقبح الانقطاع، ولا يكون عندك زيادة.
هنا؛ تغير وجه هارون وهو يسمع هذه المحاججة الصريحة من هشام، فقال: مثل هذا حيّ ويبقى ملكي ساعة واحدة!! فو الله للسان هذا أبلغ في قلوب الناس من مائة ألف سيف.
هذه الواقعة التاريخية تكشف حقيقة أن الشريحة المثقفة والواعية من التيار الرسالي، كانت في أشدّ الخفاء والاحتياط من الوقوع في شراك السلطة، وهم في قمة العطاء، فيما كانت الشريحة المثقفة والواعية من أعوان السلطة وعلماء السوء والبلاط، يحظون بالمجالس العامرة والظهور اللامع والهبات المغرية، ولعل هذا هو الذي يفسّر بقاء هارون العباسي ثلاثاً وعشرين سنة في الحكم، قضاها بين مجالس اللهو والمجون والفجور، وبين مطاردة الأخيار وقمع اتباع أهل البيت، عليهم السلام، بكل وحشية، وايضــاً حــــالات الاعتقال والزجّ بالمؤمنين في طوامير السجون وضرب الرقاب بالجملة، ثم نقرأ ونسمع عن «العصر الذهبي» للتاريخ الاسلامي في عهد هارون «الرشيد».
لماذا تنظيف صورة هارون «الرشيد»؟
وما نراه في مناهجنا الدراسية وبعض الخطاب الثقافي هنا وهناك عن ذلك العصر الذهبي، فهو ليس من ابداع السنين والعقود الخوالي من من القرن الماضي، في ظل انظمة حكم ترى مصلحتها تنزيه هارون وأشباهه، إنما تعود القضية لمن أسس أساس التضليل ورسم الصورة الكاذبة لابناء الامة والاجيال، مثال ذلك؛ ابن خلدون (1332- 1382م) وهو المؤرخ المعروف الذي يقول: لم يكن الرجل – هارون- بحيث يوقع محرماً من أكبر الكبائر عند أهل الملّة، ولقد كان أولئك القوم كلهم بمنجاة من ارتكاب السرف والترف في ملابسهم وزينتهم لما كانوا عليه من خشونة البداوة، وسذاجة الذين لم يفارقوها»، ويقصد طبعاً؛ العباسيين.
ولم يكن ابن خلدون الوحيد هذا التعامل الغريب مع الحقائق التاريخية، إنما جاء بعده بقرون عدّة، وهو السياسي العراقي عبد الجبار الجومرد (1909 – 1971) الذي لم يجد مجالاً للطعن في الروايات الدالة على إسراف هارون، اخذ يلتمس له المعاذير والمبررات، قال ما نصّه: «غير اننا لو درسنا الوضع الاجتماعي السائد يومئذ، وتذكرنا – ما قلناه سابقاً – عن مقدار ما كانت تدر ضرائب الدولة على الخزينة العامة من الاموال، وما بلغه الترف والبذخ عند الطبقات الخاصة، وما وصل اليه ذلك التسابق في استمالة الرأي العام عن طريق الشعراء والادباء والرواة وكل ذي لسان ورأي، وهم أشبه بالصحف السيارة آنذاك، لو علمنا كل ذلك وأدركنا حقائقه، إذاً لأعطينا هذا السخي الجواد بعض الحق إن لم يكن كله…»!! وفي مكان يقول الدكتور في الأدب من جامعة باريس:
«ان الرشيد أحقّ من غيره بالعطاء وأحوج الى المديح والذكر الحسن من هؤلاء – يقصد البرامكة- بحكم كونه خليفة فوق سائر الناس…»!!
على مر التاريخ، لم يتمكن الطغاة من تمرير سياساتهم والبقاء مدة أطول في قمة السلطة، إلا بتوفير أرضية من الشرعية والمقبولية لدى الجماهير، فمن بلعم فرعون، ومروراً بشريح يزيد، ثم شعراء هارون وحتى المتزلفين والوصوليين الذين برروا مختلف جرائم وانحرافات الحكام في زماننا المعاصر، ليتفرغوا لتصفية الأخيار وحجبهم عن الساحة بمختلف الوسائل والطرق.
————————–